هذا ليس حديثا تاريخيا عن السادات فى الذكرى الواحدة والاربعين لرحيله وانما هو حديث عن التبعية للامريكان التى لا تزال تنخر فى الجسد المصرى حتى يومنا هذا، انها التبعية التى بدأها أنور السادات واسس لها وورثها لخلفائه واركان نظامه من بعده الذين يحكمون مصر من وقتها بعقيدة الخوف من امريكا والسير فى ركابها والحرص على ارضائها والفوز بدعمها ومباركتها.
***
لقد تغيرت حياتنا تماما عندما تملك الخوف من امريكا، الرئيس انور السادات وقرر أن يغير موقفه من المواجهة معها الى الانقياد اليها، ولذا من المهم أن نتوقف امام لحظات ميلاد هذا الخوف من خلال القيام بقراءة مواقف السادات الاولى التى كانت تتسم بالوطنية والشجاعة ومقارنتها بسياساته ومواقفه الاخيرة التى اختارت الخضوع الكامل للولايات المتحدة وتسليمها مفاتيح مصر على طبق من ذهب، محاولين أن نضع ايدينا على اسباب هذا الخوف وآثاره:
· في 10 يناير 1971 قال السادات في احد خطبه ((ان امريكا تقف خلف اسرائيل بان لا تجلو من اى شبر .. والامريكان هم الاعداء الاصليين وليس الاسرائيليين لان اسرائيل خط الدفاع الاول لمصالح امريكا في المنطقة))
· وفى 11 يناير قال ((امريكا تريد أن تذل كرامتنا))
· وفى 11 نوفمبر 1971 قال ((اننا نعتبر الولايات المتحدة هى المسئول الاول عن اسرائيل. ان سيل الاموال الذي يتدفق في الاقتصاد الاسرائيلى والسلاح الذي تمسك به اسرائيل يجىء كله من الولايات المتحدة الامريكية. أن طائرات الفانتوم التى اغارت على مدننا ومصانعنا وعلى مدارسنا ليست مجرد صناعة امريكية ولكنها غطاء امريكى لاسرائيل.))
· وقال في 2 ابريل 1972((نحن نعرف اين تقف امريكا وما هى سياستها واهدافها، امريكا تدعم اسرائيل لتحافظ على استغلالها لثروة العرب))
· وفى خطابه بالاسكندرية يوم 27 يوليو 1972 قال: ((ان موقف امريكا هو عملية استدراج لكى نسلم ولكن امريكا بعساكرها ليست ربنا))
هكذا كان وعى الرئيس السادات بحقيقة الولايات المتحدة الامريكية ودورها المعادى والعدوانى في صراعنا مع (اسرائيل). ثم تغير هذا الموقف الى النقيض تماما، تغير الى موقفه المعلن من أن 99 % من اوراق اللعبة في يد امريكا!
***
ترى ما الذي حدث وأدى الى هذا الانقلاب الخطير؟
فلم يكن الاتحاد السوفيتى قد سقط بعد لنقول أن الاختلال في ميزان القوى العالمى وهيمنة طرف واحد على العالم هو السبب. كذلك لم يكن السبب هو تعديل امريكا لمواقفها في الصراع لتصبح اكثر موضوعية واكثر عدلا؛ فلقد ظلت على مواقفها المنحازة لاسرائيل.
في تصورى أن الذي حدث هو أن السادات في لحظة معينة وتحت الضغوط الامريكية قد تملكه الخوف وانهزم داخليا فقرر الاستسلام. ويمكننا اختبار صحة هذا التحليل من واقع كلام السادات نفسه:
· قال في 16 اكتوبر 1973((ان الولايات المتحدة ، بعد أن فتحنا طريق الحق بقوة السلاح اندفعت الى سياسة لا نستطيع أن نسكت عليها او تسكت عليها امتنا العربية ذلك انها اقامت جسرا بحريا وجويا لتتدفق منه على اسرائيل دبابات جديدة وطائرات جديدة ومدافع جديدة، وصواريخ جديدة والكترونات جديدة))
· وقال في حديث لمجلة الحوادث اللبنانية نشرته في 8 اغسطس 1975 ((جاءنى الدكتور كيسنجر في 11 ديسمبر 1973 وكان جيب الدفرسوار موجودا، وكان لنا حول الجيب 800 دبابة بخلاف خمس فرق كاملة حشدناها شرق القناة، منها الفرقتان التابعتان للجيش الثالث. وهذه الفرق الخمس كانت بكامل اسلحتها ودباباتها ومعداتها تكون حلقة تحيط باليهود مع حائط صواريخ اروع من الحائط الذي اشتكت منه اسرائيل..وسالنى كيسنجر انت ناوى تعمل ايه؟ فقلت: هذه اعظم فرصة لتصفية الجيب الاسرائيلى ..لقد تورطوا في دخول منطقة لاتتسع لاكثر من لواء او لوائين من الدبابات فادخلوا اربعة الوية، على اساس انها عملية سياسية او كما سميتها من قبل معركة تليفزيونية .. فلا هم قادرون على الدخول الى الكثافة السكانية في مصر، وليس من السهل أن ينجحوا في قطع المائة كيلومتر حتى يصلوا الى القاهرة عن طريق الصحراء . وفرقى جاهزة لتقفل الممر الذي اوجدوه بين قواتى في اقل وقت ممكن، والخطة موضوعة وجاهزة تنتظر صدور الاوامر. وقال كيسنجر: كل ما تقوله صحيح وقد تلقيت من البنتاجون قبل أن احضر لاقابلك تقريرا كاملا بعدد الدبابات التى اعددتموها ..عندك كذا.. وعدد بطارياتك وصواريخك كذا، والقوات المحتشدة حول الجيب قادرة فعلا على تصفية الجيب ولكن لابد أن تعرف ما هو موقف امريكا ..اذا اقدمت على هذه العملية فستُضرب))
· واخيرا وليس اخرا اعترف السادات صراحة بنفس المعنى السابق اذ قال فى 16 سبتمبر 1975(( انه في ليلة 19 من اكتوبر 1973 كان بقى لى عشرة ايام اواجه امريكا بذاتها. اتخذت من العريش خلف خطوطنا مباشرة بكل وضوح قاعدة وكانت بتنزل في العريش علشان الامداد يروح للجبهة في اقل وقت ممكن. طبعا كل شىء كان في خدمة اسرائيل وبعدها عرفت انه كان القمر الصناعى الامريكى بيصور كل يوم ولما انتقلت فرقة من فرقنا المدرعة من الغرب الى الشرق كطلب سوريا لتكثييف عملنا العسكرى علشان نجدتها على جبهتنا احنا ..صوروا الامريكان هذا ونقلوه للاسرئيليين ووضعت عملية الثغرة من وقتها .. يوم 19 اكتوبر لقيت اننى احارب امريكا عشرة ايام لوحدى في الميدان ونزلت امريكا بكل ثقلها))
***
· كانت هذه بعض الذرائع التى حاول بها السادات تبرير رهانه الكامل على الولايات المتحدة وتسليمها كافة الأوراق بعد الحرب، رغم أن مصر وفى ظل ظروف الهزيمة عام 1967 الأشد قسوة بمئات المرات، رفضت الخضوع والاستسلام وقررت استمرار المواجهة ومواصلة القتال.
***
خاف السادات اذن وانهزم داخليا وقرر الاستسلام وتسليم كافة اوراقه، بل قام بتسليم مصر كلها اليهم ليعيدوا تأسيسها وتشكيلها على مقاس المصالح الامريكية وامن (اسرائيل)، وهو ما كتبت عنه كثيرا تحت عنوان الكتالوج الامريكى لحكم مصر، والذى يمكن تلخيصه فيما يلى:
1) تجريد ثلثى سيناء من القوات والسلاح الا بإذن (اسرائيل)، حتى تظل رهينة التهديدات الاسرائيلية المستمرة، بما يمثل اقوى اداة ضغط واخضاع فعالة لاى ادارة مصرية، خاصة فى ظل عقدة 1967 التى تسيطر على العقل الجمعى لمؤسسات الدولة المصرية.
2) مع اعطاء الامريكان موطئ قدم فى سيناء، وقبول دخول قواتهم الى هناك لمراقبة القوات المصرية، ضمن ما يسمى بقوات "متعددة الجنسية والمراقبين" التى يرأسها سفير فى وزارة الخارجية الامريكية ولا تخضع للامم المتحدة.
3) مع اعطائهم تسهيلات لوجستية فى قناة السويس والمجال الجوى المصرى، قال عنها الامريكان، انها كانت لها دورا كبيرا فى نجاح قواتهم فى غزو العراق.
4) مع الانخراط فى كل احلافها العسكرية، والالتزام بما تقيمه من ترتيبات امنية فى الاقليم، وتنفيذ الادوار والمهام التى تطلبها منا فى حروبها واعتدائاتها العسكرية فى المنطقة بدءا بما يسمى بحرب تحرير الكويت مرورا بغزو افغانستان والعراق .. وحتى يومنا هذا.
5) تصفية الاقتصاد الوطنى الذى كان يدعم المجهود الحربى اثناء الحرب، واستبداله بمعونة عسكرية امريكية تحتكر توريد السلاح لمصر وتتحكم فى موازين القوى لصالح (اسرائيل) مع تسليم الاقتصاد المصرى الجديد لصندوق النقد والبنك الدوليين لادارته وتوجيهه والسيطرة عليه.
6) تاسيس نظام حكم سياسى تكون على راس اولوياته حماية امن (اسرائيل) والحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الامريكية، التى يجب ان توافق على شخصية رئيس الجمهورية وتبارك مؤسساته، مع حظر المشاركة فى الحكم لاى تيار او حزب او شخصيات ترفض الاعتراف باسرائيل وتناهض اتفاقيات كامب ديفيد. مع تقييد أو اجهاض أى ممارسات او توجهات او تغييرات ديمقراطية يمكن أن تأتى بقوى وتيارات معادية للامريكان ولاسرائيل، لحكم مصر.
7) استئثار وسيطرة راس المال الاجنبى والمحلى على مقدرات البلاد وثرواتها. وتشكيل طبقة من رجال الاعمال المصريين تكون لها السيادة على باقى طبقات الشعب، وتقوم بدور التابع والوكيل المدافع عن مصالح وسياسات الامريكان والصهاينة فى مصر.
8) تصفية اى تيارات وطنية ايا كانت مرجعيتها الايديولوجية، سواء كانت قومية او اشتراكية او اسلامية او ليبرالية او مستقلة، تناهض الولايات المتحدة و(اسرائيل)، مع كسر شوكة الشعب المصرى والقضاء على روح الانتماء الوطنى.
9) وتفاصيل أخرى كثيرة ..
***
رحل السادات، وبقى نظامه بسياساته وتبعيته وبخوفه المتجذر من امريكا و(اسرائيل)، وبقينا نحن نحاول أن نجيب على السؤال الصعب: كيف يمكن للاجيال الجديدة أن تتحرر من هذا الخوف التى زرعوه فى مصر منذ حرب اكتوبر، كخطوة أولى وشرط حتمى للتحرر مرة واحدة والى الابد من التبعية للولايات المتحدة الأمريكية ومن ذل وقيود اتفاقيات كامب ديفيد؟
*****
القاهرة فى 14 أكتوبر 2022
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت