- د. سنية الحسيني
بينما احتفل العالم قبل أيام بـ «يوم الطفل العالمي» يعاني الفلسطينيون من القلق والخوف على مصير أبنائهم، في ظل منظومة احتلال تتربص بهم وبمستقبلهم، تعتمد سياسة القتل المنفلت والاعتقال الممنهج ومحاولات الترهيب وغسل الأدمغة، من خلال تخويف الأطفال القصر أثناء فترة اعتقالهم وسجنهم، وعبر فرض رقابة على المناهج التعليمية في الضفة الغربية وأسرلة التعليم في القدس. خلال العام الحالي فقط، استشهد ٤٩ طفلاً فلسطينياً بنيران جنود الاحتلال، وتجاوز عدد الشهداء من الأطفال خلال العقدين الماضيين ألفي طفل، ناهيك عن إصابة آلاف الأطفال بإصابات تركت الكثير منهم بإعاقات دائمة، كما تحتجز سلطات الاحتلال جثامين عدد من الأطفال الشهداء. وحسب الإحصائيات، اعتقل منذ العام ١٩٦٧ في أراضي الضفة الغربية وغزة أكثر من ٥٠ ألف طفل فلسطيني، كان من بينهم ٢٠ ألف طفل منذ العام ٢٠٠٠، أي خلال العقدين الماضيين فقط، وعشرة آلاف طفل منذ العام ٢٠١٥، أي خلال الأعوام السبعة الأخيرة، في تزايد عددي بالغ الخطورة، والذي يشير إلى وجود سياسة ممنهجة لقمع الفلسطينيين لردعهم، خصوصاً من فئة الأطفال وجيل المستقبل. وتبدو المقاربة أكثر وضوحاً بتتبع سياسات الاحتلال وأوامره العسكرية التي تصاعدت إجراءاتها بحق الأطفال الفلسطينيين عبر السنوات الأخيرة. ومن المتوقع أن تزداد الأمور تعقيداً خلال الأيام القادمة، في ظل تزايد يمينية وتطرف المجتمع الإسرائيلي وحكومته.
تشكل الاعتقالات الممنهجة بحق الأطفال الفلسطينيين أحد أشكال المعاناة التي يفرضها الاحتلال على الفلسطينيين، اذ وصل عدد المعتقلين من الأطفال خلال هذا العام وحده إلى ألف طفل في الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، وتخطى العدد ١٣٠٠ طفل خلال العام الماضي، في منطقة لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة. وبدأ الاحتلال باعتقال الأطفال منذ احتلاله لأراضي الضفة الغربية وغزة عام ١٩٦٧، الا أنه كثف من سياسته الموجهة لاعتقالهم خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى ١٩٨٧، بتهمة إلقاء الحجارة، وتطورت تلك السياسة بشكل لافت بعد الانتفاضة الفلسطينية عام ٢٠٠٠. وتعتبر ظاهرة الاعتقالات في صفوف الأطفال المقدسيين ملفتة للنظر، خصوصاً في ظل احتكاكات واستفزازات واعتداءات المستوطنين المقيمين في القدس، وخضوعهم تحت رقابة كاميرات منتشرة في المدينة بشكل واسع. وتعتقل قوات الاحتلال أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم الـ ١٢ عاماً وأحياناً بأعمار أقل، وتخضعهم للتحقيق. ويستخدم الاحتلال أساليب من الترهيب والتخويف والإهانة خلال اعتقال هؤلاء الصغار من اقتحام عنيف لمنازلهم خلال ساعات الليل وضربهم أمام ذويهم وعصب عيونهم وتقييد أياديهم. كما تحتجز سلطات الاحتلال الأطفال للتحقيق معهم لأيام طويلة مستخدمةً أساليب مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، دون السماح للمحامين أو الأهالي لتواجد أو حتى الحصول على أي معلومات بخصوص أطفالهم المعتقلين.
وتجبر سلطات الاحتلال هؤلاء الأطفال تحت وطأة التهديد على الاعتراف أو التوقيع على وثيقة اعتراف باللغة العبرية التي يجهلها الطفل، والتي تشكل دليلَ إدانة قطعياً لدى تلك المحاكم. ووثقت الحركة الدولية للدفاع عن الطفل الطرق التي وجهت من خلالها التهم للأطفال خلال العام ٢٠٠٩ معتبرة أن ٨١٪ من هذه التهم جاءت باعترافات الأطفال أنفسهم، و٣٢٪ من هذه الاعترافات كانت على شكل وثيقة اعتراف باللغة العبرية التي يجهلها الطفل الموقِّع على الاعتراف. وقد تحكم المحاكم العسكرية التي تخضع الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سلطتها بأحكام إدارية على الأطفال، أي بحكم لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد بشكل غير محدد، وبدون وجود تهمة معينة موجهة للطفل، ويوجد اليوم ١٢ طفلاً محكومين بحكم اعتقال إداري في سجون الاحتلال. كما تحكم المحاكم العسكرية الإسرائيلية على الأطفال الفلسطينيين بعقوبات طويلة الأمد لا تتناسب مع عمر الطفل والتهم الموجهة اليه، اذ تصل عقوبة إلقاء الحجارة إلى عشرة أعوام، وقد تصل إلى عشرين عاماً أحياناً. وتتعمد سلطات الاحتلال إخضاع الأطفال الفلسطينيين المعتقلين في سجونها لمعاناة صحية وجسدية ونفسية غاية في التعقيد، بهدف التأثير على التركيبة الإنسانية لهؤلاء الأطفال.
تتعامل سلطات الاحتلال مع الأطفال الفلسطينيين من خلال أوامر عسكرية تنتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ناهيك عن اتباعها لسياسة توصم بالفصل العنصري لتميّزها في المعاملة بين الفلسطينيين واليهود الذين جرى نقلهم للإقامة في المستوطنات غير الشرعية المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة، والتي تشكل جريمة ضد الإنسانية. وتستند سلطات الاحتلال في تعاملها مع الأطفال الفلسطينيين لمجموعة من الأوامر العسكرية التي تطورت تبعاً لتطور أهداف الاحتلال في الأراضي المحتلة. فاعتبرت إسرائيل بالأمر العسكري رقم ١٣٢ الصادر في العام ١٩٦٧ أن الطفل هو الشخص دون الـ ١٦ عاماً، وفي العام ٢٠١٣ أصدرت الأمر العسكري رقم ٧١١ معتبرة أن الطفل هو الإنسان دون الـ ١٢ عاماً. ويتعارض ذلك مع القانون الجزائي الإسرائيلي الذي يطبق داخل المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي يعتبر أن الطفل هو كل شخص تحت سن الـ ١٨، وهو ما يتطابق كذلك مع اتفاقية حقوق الطفل في المادة ١ منها، والذي يعتبر من ضمن سياسات الفصل العنصري التي ينتهجها الاحتلال ضد الفلسطينيين.
ورغم أن الأمر العسكري رقم ١٦٤٤ لعام ٢٠٠٩ سمح بإنشاء محكمة أحداث عسكرية للأطفال، بعد ٤٢ عاماً من محاكمتهم في محاكم عسكرية للكبار، الا أن ذلك الأمر الجديد لم يمنح الحماية لهؤلاء الأطفال أثناء التحقيق والاستجواب، كما لم يوفر أحكاماً تتناسب مع أعمارهم وتهمهم. وسمح الأمر العسكري رقم ٣٧٨ باحتجاز الأطفال الفلسطينيين بمن فيهم الأطفال لمدة تصل إلى ٨ أيام قبل مثولهم أمام القضاء العسكري، وجاء الأمر العسكري رقم ١٧٢٦ لعام ٢٠١٣ لتمديد فترات الحبس الاحتياطي للطفل قبل تقديم لائحة الاتهام بـ ١٥ يوماً، بينما تسمح محكمة الاستئناف العسكرية بتمديد ذلك لمدة عشرة أيام إضافية قابلة للتجديد. يأتي ذلك على الرغم من أن الإسرائيلي البالغ يُعرض أمام القضاء في غضون ٢٤ ساعة، في سياسة فصل وتمييز عنصري واضحة. ويجيز الأمر العسكري رقم ١٥٩١ اعتقال الفلسطينيين إدارياً بما فيهم الأطفال. ويسمح الأمر العسكري رقم ٣٧٨ بإصدار أحكام على الأطفال تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة. ورغم إخضاع سلطات الاحتلال أطفال مدينة القدس لسلطة قانون الأحداث الإسرائيلي، بعد ضمها للمدينة المقدسة عام ١٩٦٧، الا أنها قامت بتعديله عام ٢٠١٥ وخفضت سن الأطفال، كما تقوم بتطبيقه بشكل تمييزي واضح على الفلسطينيين، اذ يحرم الطفل المقدسي من حقه أثناء الاعتقال والتحقيق، كما شكلت عقوبات مثل الإبعاد والإقامة الجبرية المنزلية عقوبات إضافية على الأطفال.
تنهك إسرائيل كقوة احتلال القانون الدولي في تعاملها مع الفلسطينيين بالغين وأطفالاً، وستتصاعد تلك الانتهاكات في الأيام القادمة. تصاعدت يمينية المجتمع الإسرائيلي مؤخراً بشكل واضح، فبالإضافة إلى نتائج الانتخابات التشريعية، التي جاءت تباعاً بمنظومة سياسية أكثر يمينية وتطرفاً، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى ارتفاع تأييد الشارع الإسرائيلي لقتل الفلسطينيين، حتى في الحالات التي لا يشكلون فيها خطراً على الجيش، وزيادة دعم تطبيق عقوبة الإعدام على الفلسطينيين، وشن مزيد من الحروب على غزة لمنع إطلاق الصواريخ منها. وفي تطور أخير على نتائج الانتخابات، توصل بنيامين نتنياهو في مفاوضته لتشكيل حكومته الائتلافية مع زعيم حزب القوة اليهودية اليميني المتطرف ايتمار بن غفير بمنحه حقيبة الأمن الداخلي بصلاحيات موسعة. ويطالب زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش اليميني المتطرف بوزارة الجيش، والتي تمكنه من التدخل أيضاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم عدم حصول سموتريتش على ما يريد بعد، في ظل رغبة نتنياهو باحتفاظ حزبه بحقائب الخارجية والحرب والمالية، تبدو الأمور الأمنية للفلسطينيين متجهة نحو الأسوأ. وفي أرض يخضع سكانها تحت سلطة الاحتلال، يعانون من اقتحامات قواتها العسكرية المدججة بالسلاح لأراضيهم وشوارعهم وبيوتهم بشكل يومي، وحملات اعتقال منتظمة في صفوفهم، وقتل وتصفية لأبنائها أمام أعينهم، تبدو مقاومة الاحتلال أمراً طبيعياً ومنطقياً، وليس هناك إمكانية لتغيير هذه المعادلة، كما أثبتت تجربة الماضي الا بتحررهم من قبضة المحتل. ولم يُنتج عنف وإرهاب الاحتلال الإسرائيلي إلا مزيداً من الرفض والتحدي الفلسطيني، فلا الطفل سينسى ويسامح من قتل أو اعتقل أو أهان أهله ولا الكبير سينسى ويسامح من قتل أبناءه وحرمه منهم. ومهما تصاعدت يمينية وتطرف حكومة الاحتلال لن تنتهي مساعي الفلسطينيين لردع ومواجهة الاحتلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت