- بقلم : د. لبيب قمحاوي
العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن تحولت من دول الى أشباه دول، ومصر وتونس في الطريق وإن بشكل مختلف، ودول عربية صغيرة مثل الأردن وقطر والأمارات أصبحت تتنطح المشهد وكأنها دول رئيسية قائدة لمسيرة الاقليم؟ ما الذي جرى ويجري بشكل قلب الأمور رأساً على عقب وأخل بالموازين والمقاييس الطبيعية وجعل من صغير القوم كبيرهم ؟
ما الذي جعل دول العالم العربي على ما أصبحت عليه الآن تتسابق على التطبيع الطوعي مع اسرائيل والى الحد الذي جعل بعضها يتسابق على ابداء ولائها لنهج التطبيع والسلام الطوعي المجاني، بغض النظر عن معاناة الشعب الفلسطيني وتفاقم الإجرام والتمييز الاسرائيلي ضد الفلسطينيين .
تلوح في الأفق العربي بدايات حقبة جديدة من الانهيارات الاقتصادية المتتالية لأسباب مختلفة والتي سوف تترجم نفسها بالنتيجة من خلال عجز الدولة الوطنية العربية عن القيام بالحد الادنى من المسؤوليات المناطة بها والمُتَوَقَّعَةِ منها كدولة، مما سيفاقم الأمور الى الحد الذي سوف يضعف الدولة الوطنية ويجعلها أقرب الى هيكل أجوف منها الى محتوى مؤسسي حقيقي فاعل . وهذه الحالة لا تأتي في العادة فجأة أو خلال فترة زمنية قصيرة، ولكنها تأتي نتيجة سياسات تراكمية على مدى عقود طويلة من العمل الهادف الى إضعاف مؤسسات الدولة وجهازها الاداري ومنظومتها القضائية بشكل يؤدي إلى الحد من قدرة الدولة على الأداء ويجعل من ترابط مؤسساتها أمراً شكلياً يزداد ضعفاً مع مرور الوقت.
المؤشر الأخطر وقد يكون الهدف الحقيقي المنشود من إنهيار الدولة الاقتصادي والمالي يكمن في إشارته الضمنية الى أن الدولة المعنية لا تملك ما يؤهلها لأن تكون دولة بالمفهوم الحديث للدولة، وأن الانهيار الاقتصادي والمالي سوف يؤدي بالنتيجة الى انهيار مؤسسات الدولة المعنية وبنيتها التحتية المتهالكة والى تبعيتها الاقتصادية والمالية وبالتالي السياسية، أو قد تؤدي الى انهيار الدولة نفسها، مما يجعل من احتلالها أو الهيمنة عليها أو تقسيمها أمراً ممكناً أو متوقعاً وإلى الحد الذي جعل من تقسيم دول مثل العراق وسوريا وليبيا احتمالا مطروحاً ومتداولاً، وتقسيم أو زوال دولة مثل لبنان أمراً متوقعاً ولا يَبْعَث على التساؤل أو الصدمة .
الحديث الدائر والمتواتر عن كون هذه الانهيارات هي نتيجة أخطاء وسياسات فاشلة قد يكون بالرغم عن صحته أبعد شئ عن الحقيقة . لا أحد يريد في الواقع أن يتكلم أو يفصح عن حقيقة أن هذه الانهيارات مقصودة بل ومطلوبة، وأنها بالتالي نتيجة لسياسات تم رسمها والتخطيط بها بهدف إدارة الأمور في هذا الاتجاه . ومن هنا، فان بعض الدول المانحة تتغاضى عن الفساد وسوء إدارة المساعدات أو الهبات التي تقدمها لأن الهدف المطلوب هو تكريس التبعية الاقتصادية للدولة المستفيدة وليس الاصلاح الاقتصادي الحقيقي والفاعل . الحديث الدائر عن الفساد والتسيب لا يلقى بالتالي أي إهتمام أو أذن صاغية من تلك الدول المانحة لأن الاصلاح الحقيقي يأتي متعارضاً مع الأهداف الخفية والمشتركة بين معظم الدول التي تقدم تلك المساعدات والهبات أي الدول المانحة.
إن إفشال الدولة الوطنية من خلال الانهيارات الاقتصادية والمالية المتتالية هو البديل لإفشالها عسكرياً وتدميرها نتيجة لذلك . وهكذا يصبح السلاح الاقتصادي والمالي هو البديل الحديث للسلاح أو الهزيمة العسكرية وبنتائج قد تكون أكثر فداحة في أثرها وأطول مدى في تأثيرها .
الانظمة الحاكمة متورطة ومُشتَرِكة في هذا المخطط لأنها هي المستفيدة من الفساد في إدارة المساعدات والهبات مما سوف يساعدها بالنتيجة على الاستمرار في الحكم حتى ولو على دولة هزيلة أو ضعيفة أو مفككة الأمر الذي قد يعزز من قدرتها على البقاء والاستمرار .
من هو المستفيد الحقيقي من كل ذلك ؟ ولماذا هذا المخطط ؟
تلتقي في الاجابة على هذا التساؤل مصالح دول الغرب وأمريكا مع المصلحة الاسرائيلية ومصالح القوى الاقليمية الرئيسية وهي تركيا وايران . فإضعاف الدولة الوطنية العربية واضعاف الهوية والانتماء القومي العربي هو مصلحة مشتركة لكل تلك الدول . وفي ظل هذه المصلحة المشتركة تبرز رؤيا مشتركة في ضرورة السيطرة على الاقليم العربي الضعيف والمترنح بعد مايزيد عن نصف قرن من الهزائم العسكرية والسياسية والتراجع الاقتصادي والانهيار المالي وتفسخ القضاء وتفاقم نهج الاستبداد والفساد الكبير وقمع الحريات بأشكالها المختلفة . وهكذا أخذت القوى الدولية والاقليمية تتعامل مع العالم العربي باعتباره رجل الشرق المريض الذي تسعى مختلف القوى الى وراثته والاستيلاء عليه وعلى ثرواته ومصادره الطبيعية ومياهه ومقدراته بأية طريقة ممكنة حتى لو تطلب الأمر تقسيم أي دولة من دوله الى دويلات أو الى مناطق نفوذ كما حصل في العراق وسوريا وليبيا واليمن دون أي اعتبار لشعوب تلك الدول أو مصالحها، وأصبحت تلك الدول بالتالي مستباحة سيادةً وأرضاً وثروات ومصادر .
يسير العالم بشكل عام في اتجاه استبدال السيادة السياسية بالقوة الاقتصادية المستندة الى التكنولوجيا المتطورة، وأصبحت التكتلات الاقتصادية الكبرى أقوى وأهم واكثر نفوذاً من الدولة الوطنية التي أخذت تنحسر تدريجياً لصالح تلك التكتلات العابرة للحدود بإستثناء دول العالم الثالث التي تفتقر الى القوة الاقتصادية والتكنولوجية والى التكتلات الاقتصادية المؤثرة، حيث بقيت الدولة الوطنية هي الخيار الوحيد المسموح به كأحد مخلفات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا اذا تعارض وجودها مع مصالح الدول الكبرى أو التكتلات الاقتصادية الكبرى .
يمر العالم الآن في الواقع بحقبة انتقالية لم يستقر فيها نهج التغيير حتى الآن . فالأمور ما زالت تتأرجح بين الدولة الوطنية والنظام العالمي السائد من جهة، وبين قوى التغيير والعوامل الحاكمة لذلك التغيير من جهة أخرى . وواقع الأمور يشير الى أن مثل ذلك التغيير لن يأتي بسهولة خصوصاً وأن الانتقال من العالم القديم الى عالم جديد قد لا يكون سلمياً إذا ما ثبت أنه سوف يؤدي الى المساس المباشر بمصالح الدول الكبرى والتكتلات الاقتصادية الدولية السائدة .
التغيير القادم سوف يؤدي الى إضعاف الانتماء للهوية الوطنية لصالح تطابق المصالح واستقطاب الكفاآت على المستوى الفردي . ولن يبقى هنالك أي انتماء ايديولوجي أو عقائدي يتمتع بأهمية أو تأثير إلا في بعض الدول التي تنتمى الى العالم الثالث بالمفهوم المجازي في العالم السائد . التوجه نحو الكونية أو العالمية سوف يكون ضمن شرطين هما التفوق التكنولوجي وأولوية المصالح الاقتصادية . وهذين الأساسين سوف يستبدلا ما كان يعرف بالايديولوجية الوطنية وكذلك الكيان السياسي الذي يمثلها وهو الدولة الوطنية .
06/02/2023
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت