الاستيطان وخدعة الدولة الفلسطينية

بقلم: سنية الحسيني

صور من حاجز شعفاط .. عدسة (الفرنسية).jpg
  • د. سنية الحسيني


ليس من الصعب اليوم على المتتبع لتطورات الحالة الفلسطينية أن يجزم أن فكرة الدولة الفلسطينية، التي طرحت في ضوء مبادرات السلام مع إسرائيل، لم تكن إلا مجرد وهم، في ظل تواصل مشروع استيطاني كبير منذ العام ١٩٦٧ حتى يومنا هذا، ضمن مخطط تكاملي متدرج ومستمر، لفرض واقع على الفلسطينيين يصعب تغييره، يحصن باعتبارات دينية، ويستخدم حججاً أمنية، ويفرض بقوة النار. ولو عدنا إلى الوراء قليلاً وقارنا مخططات الحركة الصهيونية وممارساتها قبل العام ١٩٤٨ للسيطرة على الأرض الفلسطينية وطرد أهلها، مع مخططات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وممارساتها بعد احتلال باقي الأرض الفلسطينية عام ١٩٦٧، لاتضحت الصورة ضمن ذات المبررات الدينة المستخدمة والمخططات الاستيطانية المتلاحقة وتحييد عامل القوة للفلسطينيين، وهو الأمر المستمر حتى اليوم. إن استمرار تمسك الفلسطينيين بحل الدولتين في ظل وقوفهم متفرجين على تضخم المشروع الاستيطاني، الذي غيّر عملياً من واقع الأراضي المحتلة لا يعتبر طريقاً واقعياً لمواجهة الحقيقة. كما أنه لا مجال لتبرير تعامل الدول العربية مع الكيان المحتل وتطبيع علاقته معه، وهو يواصل مشروعه الاستيطاني المحكم التخطيط، في أرض فلسطين، والذي غيّر واقعها بهدف فرض مستقبلها، فهو يعد تماهياً مع الاحتلال ومشاريعه. أضف إلى ذلك أن تعامل الدول العربية مع إسرائيل وتطبيع علاقاتها معها يقوي موقف إسرائيل الرافض للانصياع لمطالبات الولايات المتحدة والدول الغربية بوقف الاستيطان، على أساس أنه يقوّض مستقبل حل الدولتين، فلو ضغطت الدول العربية على حلفائها وأصدقائها وشركائها الغربيين فيما يخص قضية الاستيطان، لتضاعف أثر الضغوط الغربية على إسرائيل بهذا الخصوص، والتي قد تعطل قليلاً مخططاتها المتواصلة لتقويض أي فرصة حقيقية أمام الفلسطينيين للاستقلال. ولا يعدّ عامل الوقت في مصلحة الفلسطينيين، والذي يفرض يوماً بعد يوم واقعاً يبعدهم عن قيام دولة فلسطينية واقعية. كما أن حاجة الفلسطينيين للحاضنة العربية، خصوصاً لعزل إسرائيل، يُعد جوهرياً وأساسياً، في ظل عدم إمكانية تجاهل ما حققه العدو في فلسطين على حساب أهلها.


إن استمرار الاستيطان الذي بدأ في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ بعد احتلالها مباشرة، واستمر بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ حتى اليوم، يعكس منهجاً مخططاً، ويعد مرحلة من مراحل تطور المشروع الصهيوني في فلسطين الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر.
فمنذ نشأة الحركة ومنذ احتلالها عام ١٩٦٧، تروج إسرائيل لمكانة الضفة الغربية في الفكر الديني اليهودي، تماماً كما روجت الحركة الصهيونية منذ العام ١٨٩٧ لـ "أرض الميعاد" و"شعب الله المختار"، وذلك باستخدام البعد الديني التوراتي لشرعنة مشروعها السياسي. فإعطاء الأرض الفلسطينية صفة القدسية بالنسبة لليهود، يفسر دعم الحكومات الإسرائيلية المختلفة لنمو المجتمعات الدينية في إسرائيل، والذي يعكس أصوات التيارات المختلفة منها التي ترفض أي مشروع سياسي يسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم، أو أي فكرة تحمل مقاربة التنازل عن الأرض، وهو الأمر الذي بدأ بعد احتلال عام ١٩٦٧، ونما بتسارع حتى اليوم. وتطلق إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى اليوم تسمية "يهودا والسامرة"، لترسيخ الرابطة الدينية في ذهن اليهودي. كما يعكس قانون القومية الذي أُقر عام ٢٠١٧، الذي اعتبر أن أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وله وحده الحق بتقرير المصير داخل هذه الأرض، مع اعتبار الاستيطان قيمة وطنية معززة، وفي ظل عدم الإقرار بوضع حدود لهذه الدولة حتى هذه اللحظة، ليعكس النوايا الحقيقية لإسرائيل تجاه دولة للفلسطينيين.

 

هذا التوجه الصريح بعدم وجود نية للتخلي عن أراضي الفلسطينيين، عبرت عنه صراحة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وتطور مشاريع الاستيطان، والذي تفننت الحكومات الإسرائيلية المختلفة يسارية ويمينية في تحقيقه. فقد اعتبر مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل عام ١٩٧٧ أن الاستيطان تعبير عن الهوية الدائمة للصهيونية، ولا فرق بين الاستيطان السابق قبل قيام الدولة عام ١٩٤٨ وبعد عام ١٩٦٧، فهو لتثبيت السيادة اليهودية على فلسطين. وصرح بنيامين نتنياهو بعد توليه رئاسة الحكومة الأولى في العام ١٩٩٦، أن الضفة الغربية يجب أن تكون جزءاً من إسرائيل، وأن الفلسطينيين سوف يتأقلمون ويتعودون على خفض مستوى طموحاتهم الوطنية. ووضعت أول مخططات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ بمجرد احتلالها من قبل حزب العمل اليساري، والذي تبنى مقاربة تشييد المستوطنات على طول خط الهدنة من الناحية الغربية وعلى امتداد غور الأردن، على طول الحدود الشرقية للأراضي المحتلة بدواعٍ أمنية، مع البناء أيضاً في القدس والخليل. كما قدم حزب الليكود اليميني الذي وصل لسدة الحكم في إسرائيل عام ١٩٧٧، تطوراً مهماً يتعلق بالبناء الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المكتظة بالسكان، مستخدماً المحاججة والاعتبارات الدينية بالإضافة إلى تلك الأمنية، محققاً إنجازين جديدين، الأول يتعلق بالحد من التمدد الطبيعي للفلسطينيين في أرضهم، والثاني ساهم في عزل الفلسطينيين في قراهم ومدنهم عن بعضهم البعض، فـي سبيل إحكام السيطرة عليهم وتقويض حركتهم. يأتي ذلك على الرغم من أن فكرة عزل الفلسطينيين جاءت أيضاً في عهد حكومة حزب العمل، لكن في إطار قطاع غزة، والذي اقترح عزلها لثلاث مناطق من خلال بناء المستوطنات.

 

إن هذا المخطط العام بنت عليه الحكومات الإسرائيلية بعد ذلك، مع تطويرات وتعديلات أقدمت عليها الحكومات المختلفة التالية يمينية كانت أم يسارية، قبل توقيع اتفاق أوسلو أو بعدها. ووضع في عين الاعتبار في إطار تلك المخططات التغلب على خلاف رئيس دار بين تيارين في إسرائيل، الأول يدعم النقاء اليهودي، وعدم القبول بوجود الآخر، والذي انعكس بالفعل بالإعلان عن يهودية الدولة داخل أراضي عام ١٩٤٨، والثاني يركز على أولوية الأرض وتكاملها ووحدتها. فبعد توقيع اتفاق أوسلو مباشرة أكدت المحكمة العليا في إسرائيل على ملكية إسرائيل لمنطقة الحرم، وركزت على زيادة عدد الوحدات الاستيطانية داخل المستوطنات، لتضخيم حجمها، وعلى زيادة أعداد المستوطنين، فلم يتجاوز عدد المستوطنين في أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية قبل توقيع اتفاق أوسلو الربع مليون مستوطن، وبتنا اليوم نتحدث عن حوالى مليون مستوطن، ودعوات وطموحات ومخططات لرفع العدد إلى مليونَي مستوطن. واليوم يفرض الاستيطان واقعاً صعباً على الفلسطينيين، فعزل طولياً معظم منطقة غور الأردن من الناحية الشرقية عن باقي المناطق الفلسطينية، والتي تشكل حوالى ثلث الضفة الغربية، كما يعزل جدار الفصل العنصري، الذي بدأ بناؤه منذ العام ٢٠٠٢، ويمتد معظمه طولياً من الناحية الغربية للضفة الغربية، مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية عن تواصلها الطبيعي، ويقتطع ١٠٪؜ من مساحة الأراضي المحتلة. يأتي ذلك بالإضافة الى كتل استيطانية ضخمة، نمت بشكل تراكمي ممنهج، عبر كل تلك السنوات الماضية، وتقطع أوصال الضفة الغربية عرضياً، وتمتد في القدس ورام الله وبيت لحم والخليل ونابلس وسلفيت وجنين، ناهيك عن البؤر الاستيطانية المتناثرة هنا وهناك.

 

هذا المخطط الاستعماري الجهنمي الذي نفذ بعناية وبشكل متدرج، سمح لإسرائيل بفرض سيطرتها على أكثر من ثلثي مساحة الضفة الغربية، وهي لا تسيطر فيها فقط على المستوطنات، بل على جميع الطرق والممرات التي تربط التجمعات السكنية الفلسطينية ببعضها البعض، في حين تبني شبكة مواصلات ضخمة تربط جميع المستوطنات المبنية على هذه الأرض مع المدن الرئيسية داخل الخط الأخضر. يعيش الفلسطينيون اليوم في معازل منفصلة ومقسمة وتحت السيطرة الإسرائيلية الفعلية، حتى وإن أطلق عليها دولة فلسطينية. إن مشكلة الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة اليوم لا يتعلق فقط بنسبة الأراضي التي سُلبت من الفلسطينيين، وتقع تحت سيطرة إسرائيل وإنما أيضاً في قضية فصل المناطق الفلسطينية وعدم تواصلها، وعزل الفلسطينيين وقراهم ومدنهم عن بعضهم البعض، ليس مع غزة فقط بل مع مجمل أراضي الضفة الغربية. كما أن تعاظم مكانة ودور المستوطنين والمتدينين في النظام السياسي الإسرائيلي وصنع القرار، والذي تطور بوعي وتخطيط عبر السنوات الماضية، ولوحظ في الانتخابات الأخيرة، يبين المستقبل المظلم لحل الدولتين، ضمن الاعتبارات القائمة. إن وقت الدبلوماسية والمفاوضات والتفاهمات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يعد ذا مغزى الآن، والضغط والتكلفة هي فقط الطريق الوحيد لزعزعة مخططات إسرائيل، فانخفضت وتيرة وسرعة إنشاء المستوطنات وتمددها خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما بين عامي ١٩٨٧ و١٩٩٢، وتم إخلاء مستوطنات بأكملها خلال فترة الانتفاضة الثانية التي انفجرت في وجه الاحتلال عام ٢٠٠٠، كما بدأت تظهر فكرة الانفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين، التي طرحت في البداية من قبل إيهود باراك في ذلك العام. وسبق لإسرائيل أن اضطرت لتفكيك مستوطناتها في سيناء وغزة، فهل نقوى معاً لقلب المعادلات.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت