سبعون عاما والفلسطيني بين تخاذل القِمم وتعاظُم الهِمم

بقلم: أحمد سليمان العمري

أحمد سليمان العمري
  • أحمد سليمان العمري/دوسلدورف

الدول العظمى والفاعلة عالميا تنادي بالحقوقية والمساواة؛ حقّ المرأة وحماية المثلية، التي يروّج لها بشكل لافت، وحُرّيّة التعبير ورفض القمع ومُحاسبة الأنظمة البوليسية بالحصار وكُلّ ما يتبعه من آليات لتحجيم دورها بالوقوف في وجه الإنسان وكرامته، ولكن تقف كُلّ هذه القرارات واللوائح؛ غير قابلة للتفاوض، والمُسلّمات والقناعات عند حدود دولة الإحتلال الإسرائيلي، فتختلف المعايير رأسا على عقب، فتُصبح الإنتاهاكات والقتل المُمنّهج والمجازر دفاعا عن أمن الدولة، وتؤول المطالبة بإنهاء الإحتلال إلى خطابات تسويقية بين رفض للعنف وحلّ الدولتين؛ لا تُسمن ولا تُغنِ من جوع؛ تأخذها الأنظمة المُطبّعة نسخا وتُلصقها على »قفا« الشعوب لتعميم الوهم جبرا.

 

جنين ومُخيّمها

منذ مطلع العام الحالي وحكومة «بنيامين نتنياهو» اليمينية تمارس القمع والقتل في الضّفّة الغربية؛ متعمّدة التصعيد والمواجهات ومتجاهلة كُلّ الدعوات الدولية والإقليمية للتهدئة، وسط تحذيرات من نشوب إنتفاضة جديدة أكثر شراسة من إنتفاضة 2002.

لقد آلت جنين ونابلس إلى كُتل نارية مؤجّجة تُؤرّق المنظومة الأمنية الإسرائيلية، فضلا عن القدس الشرقية، فقد قتلت المقاومة 14 إسرائيلياً في عمليات مُتفرّقة، بالمقابل أسفر التعطّش للدم الفلسطيني، الذي لا يهدأ عن إرتقاء 81 ونيّف شهيداً؛ آخرهم مُنفّذ عملية تل أبيب، الذي أصاب 5 أشخاص في إطلاق نار مساء يوم الخميس بشارع «ديزنغوف» وسط المدينة، بينهم اثنان في حالة حرجة، واستشهاد مُنفّذ العملية، البطل الصنديد مُعتز الخواجا، في حين صرّحت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بمسؤليتها عن العملية كردّ على جرائم الإحتلال والإعدامات الميدانية في بلدة «جبع» ومدينة جنين، والتي لا تتوانى عن قتل الأطفال أيضاً، وتوعدّت بمزيد من الضربات الموجعة.

قبل أيام اقتحم جيش الإحتلال جنين ومخيمّها بأعداد كبيرة، قُدّرت بنحو 40 آلية عسكرية مدعومة بقوات خاصّة؛ تسلّل جنودها إلى مخيم جنين بزي مدني، وحاصروا المنازل في شرق المخيّم، وقُصفت بعضها بالصواريخ، وبمشاركة مروحيّات ومسيّرات، راح ضحيتها 6 فلسطينيين وأصيب آخرون.

لقد سبق هذا الإقتحام الدموي مذبحة نابلس حصدت 11 شهيدا وإصابة 101 فلسطيني؛ أعقبها مجازر أخرى لا تقلّ دموية عن الأولى، تلتها بأربعة أيام قمّة العقبة الأمنية، والأصحّ قمّة العار، التي بدأ العمل بأوراقها يوم الأحد 26 فبراير/شباط، رافقها رفض شعبي واسع، وإعلان 11 فصيلاً فلسطينياً عدم المشاركة، إضافة إلى استمرار الجرائم الإسرائيلية أثناء انعقادها، الأمر الذي يدعو إلى الحنق باستخفاف الحكومة الإسرائيلية بالشعوب والقادة المشاركين في القمّة، ما يدلّ على انفصالها عن الواقع، فضلا عن رغبة الإحتلال بهذه الخطوة إضافة نصر جديد؛ ممثّلا بإلزام السلطة والدول المشاركة بتقديم ضمانات جديدة لحماية أمن إسرائيل بجهود عربية.

إرتهان ساذج للوعود الإسرائيلية الأمريكية، وكلاهما تجاه القضية الفلسطينية سواء.

أثناء اجتماع العقبة في الأردن، الذي جمع السلطة الفلسطينية، مصر والأردن مع الوفد الإسرائيلي، ورّدت عملية «حوّارة» في نابلس قلوب الفلسطينيين المكلومة، التي نفّذها الشهيد عبد الفتاح خروشة؛ تمخّض عنها هلاك إسرائيليين اثنين، ليرُدّ المستوطنون بحرق حوّارة بحماية جيش الإحتلال، ليتبعه تصريح وزير المالية الإسرائيلي «بتسلئيل سموتريتش»: «يجب أن تُمحى حوّارة»، بينما في الأثناء كان القادة العرب مجتمعون بالوفد الإسرائيلي بذريعة تهدئة الأوضاع؛ يحتسون القهوة، ولا أستبعد المناسف؛ تخلّلها نقاشات ودّيّة، وأقصى ما توصّلت إليه الإدارة الأمريكية تجاه ذلك التنديد، هو وصفها تصريحات وزير المالية بالمقيتة والمقزّزة، ليُترجم هذا المقت وزير الدفاع الأمريكي بزيارة لإسرائيل لتقديم التعهّدات «لنتنياهو»، فقد صرّح «لويد جيمس أوستن» في مؤتمر صحفي بأنّ بلاده مُلتزمة بأمن إسرائيل أكثر من أي وقت مضى.

رفض هنا وتنديد هناك، وتنفيذ مفقود وزركشات بتقريع مضروب؛ تمنح الإحتلال المسعور تحرُّك لإرتكاب المجازر غير المشروط.

 

قمّة العقبة

مضى عقدان على قمّة العقبة الأولى؛ عُقدت في يونيو/حزيران 2003، التي استضافتها الأردن وجمعت الرئيس الأميركي «جورج بوش»، برئيسي الوزراء الإسرائيلي الهالك «أرييل شارون» والفلسطيني محمود عباس ومشاركة مصرية، تحت رعاية الملك عبد الله الثاني لبحث تنفيذ خطّة سلام؛ عُرفت بإسم «خارطة الطريق»، والتي غيّبت عنها بإرادة دولية وإسرائيلية ياسر عرفات لدعمه لإنتفاضة الأقصى آنذاك، فأشركت محمود عباس بدلا منه، لإستعداده مجابهة المقاومة، وهو التوقّع الذي أصاب نهج الأخير منذ توليه الرئاسة حتى اللحظة.

 

في الأثناء تفاقمت الأصوات الإسرائيلية المتطرّفة جرّاء العمليات الفلسطينية الرّادعة المشروعة المبرّرة ردّا على قتل جيش الإحتلال المُمنهج في جنين ومخيّمها ونابلس منذ مطلع العام الجديد؛ تجسّدت بالتفاهمات مع السلطة في قمّة العقبة، وأفضت إلى استمرارية ممارسات العنف أمام الصمت العالمي والعربي.

لقد جاءت سياسة الحكومة الإسرائيلية بالعنف وبضراوة لتضليل الإستحقاق السياسي مواتية لمعارضة الشارع الإسرائيلي للاحتجاج وشلّ الحركة في عدّةّ مدن، خاصّة في تل أبيب وإغلاق الطريق إلى مطار «بن غوريون»؛ محاولة لمنع سفر نتنياهو إلى إيطاليا كتبعة لخطّة الأخير وإحداثه تغييرات في الجهاز القضائي، من شأنها تقويض القضاء والمحكمة العليا بغرض إلغاء محاكمته بتهم فساد وخيانة الأمانة.

فضلا عن إرجاء النُخب السياسية الاتفاق السعودي الإيراني، الذي رعته الصين إلى فشل كبير؛ يُسجّل لنتنياهو بعزل إيران والحدّ من برنامجها النووي، إضافة إلى اعتبار الإتفاقية إنعكاسا لعدم ثقة دول المنطقة بالإدارة الأمريكية.

 

الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة لم تُثر الحنق في الشارع العربي فحسب، إنما عند قادة الإحتلال أيضاً، فقد وصف «يائير لابيد» «بن غفير» بـ: «وزير التيك توك والساندويتشات (...) لقد اختلطت عليه الأمور من جديد (...) هذه أكثر الحكومات جنوناً في تاريخ إسرائيل»، وذلك بعدما أصدر الأخير تعليماته للشرطة بألّا تسمح بإغلاق الشوارع من قِبل المتظاهرين، واصفاً إياهم بالفوضويين.

 

بنود القمّة

الهدف الرئيس من وراء قمّة العقبة وبدون مواربة وتزيين للواقع الأكثر من المؤلم؛ يعيشه الفلسطيني وحده، هو نصر إضافي للإحتلال بدعم عربي دون ضمانات وتسليم ملف المقاومة وإخمادها إلى السلطة لتقوم بالعمل الذي أخفق به جيش الإحتلال أمام المقاومة الضروس والذود عن الأرض والعرض من أجل نيل الحرّيّة.

أهم ما أفضت إليه القمّة هي مجموعة بنود رنّانة؛ نسخ لأي إتفاق سابق، لن يلتزم به الإحتلال، ويُلزم السلطة بالمقابل بكبح جموح المقاومة بالتعاون مع مصر والأردن، منها:

1.       الوصول لصيغه أمنية تعاونية بين إسرائيل والأطراف المشاركة.

2.       تشكيل هيئة، أشبه بنظام عسكري استراتيجي دفاعي لدعم تعاون مشترك يجمع مصر، الأردن، السلطة وإسرائيل.

3.       تعمل مصر على متابعة تنفيذ عناصر المقاومة الفلسطينية في غزّة، بما يُسمّى «بالصبر الاستراتيجي».

4.       شراكة أردنية مع السلطة لرصد نشاط قيادات المقاومة وأسمائهم، فضلا عن متابعة الخلايا الفلسطينية النائمة. مُصطلح مُسيء؛ استخدمه الغرب لتبرير إدانة أي مسلم بذريعة الإرهاب بعد هجمات «11 سبتمبر»، والمقصود به في هذا السياق فلسطينيو الداخل، لعزلهم بمسوّغ العمليات الوارد تنفيذها في إسرائيل.

5.       خطّة «مايكل ڤينزل» لإستبدال قوات الإحتلال بـ ٥٠٠٠ من قوات أمن السلطة لمجابهة المقاومة في جنين ونابلس.

 

الفلسطيني سئم ضعف السلطة وعجز الجيلين الماضيين، التي أصابهما الوهن واعتراهما التواطؤ، فقد اختار الإنتفاضة والحرّيّة بدلا من الإنهزام المتكرّر من سلطة لم تمثّله البتّة، لا بل تُمنيه بالإخفاق المتواصل وخيبة الأمل، كما هو الحال الآن في قمّة العار، والمآل الذي وصلت إليه بتضامن من قادة المنطقة العرب؛ حضروا مع  المفاوض الإسرائيلي إلى العقبة لإضفاء الشرعية على مصادقة ١٠٠٠ مستوطنة في الضّفّة باعتبارها «روابط قرى جديدة»، إضافة إلى «تنظيف» الضّفّة من الإرهابيين - على حدّ وصفهم - بعدما عجزت هي عن مقاومتهم.

 

بيت القصيد

الآن وبعد أنّ أفصح الصبح بإلتفاف الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية بمساهمتها لإضعاف الفلسطيني المقاوم وكسر ظهره بالإتفاقيات التطبيعية، وتقديم المواثيق للإحتلال بالإلتزام من جديد؛ لا يُقابله غير نكوث للعهود وغطرسة مُدّعمة عالميا.

وقاصمة الظهر الأخيرة كلمة »بتسلئيل سموتريتش «في ‎باريس؛ ألقاها على منبر أظهر خارطة ‎إسرائيل؛ تضُمّ الأردن كُلّها وبعض السعودية.
في ظل الاتفاقيات الإذلالية وصمت الخارجية الأردنية وتواطؤ الأنظمة العربية، وتعاطف الحكومات الغربية مع السيناريوهات الصهيونية الاستخفافية، وتلاقي المصالح الأمنية والإقتصادية والعنصرية والإزدرائية، وتحالفات القوى العنجهية، فلا ضير أن يُنكر وزير المالية الإسرائيلية كلّ الشعوب العربية، واستدارة «البندورة» والبرتقالة الفلسطينية، أو يعتبرهم «بطيخا» في المزارع الإسرائيلية.

أنظمتنا لا تُتقن استثمار الفرص، فكما أخفقت بإدانة الغرب وإتخاذ موقف حاسم لإزدواجية المعايير مطلع الحرب الروسية الأوكرانية، تفشل مجدّدا بعدم استثمار الإنقسام والإنهيار داخل دول الإحتلال غير المسبوق، فضلا عن فشل الحكومة الحالية بتنفيذ وعودها بإقصاء إيران ومشروعها النووي؛ يحتاج إلى وقفة ولاء والبقاء على الميثاق لهدم الدولة ضعيفة الأركان الآن، ولكن يبدو أن العجز تمكّن من الحكومات العربية فاحترفت الوهن واختارت  الاستسلام والانهزام بدلاً؛ فوافق ذلك مصالح قادتها الشّخصية على حساب الشعوب ومُستقبل الأمّة وقرارتها المصيرية.

وفي هذا المقام أستحضر قول الشّاعر أمل دنقل

هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟              أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء

تلبس فوق دمائي ثياباً ُمطرَّزَةً بالقصب؟                إنها الحربُ، قد تُثقل القلب

لكن خلفك عار العرب... لا تصالح                      ولا تتوخَّ الهرب

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت