- أسامة خليفة
- باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
رواية في ثلاثة أجزاء صدرت في 16/3/2023، للكاتب «كمال توفيق البقاعي»، الناشر "دار الدلمون الجديدة".
الجزء الأول: «الجزيرة» الطبعة الثانية، عدد صفحاتها 155 صفحة.
الجزء الثاني «رياح التغيير» الطبعة الأولى، عدد صفحاتها 212 صفحة.
الجزء الثالث: «بلاد الزيتون»: عدد صفحاتها 194 صفحة.
الجزء الأول في طبعته الثانية، بعنوان «الجزيرة»، نجد في تحليل عناصرها ثلاثة أماكن مسرحاً لأحداثها فالمكان الأول والأساسي هو جزيرة «حالول» في دولة قطر، تحيط بها حقول النفط البحرية، لذا كانت مستهدفة بمشاريع تتناسب وهذا الكنز المتدفق، ليكون للجزيرة مرفأ قادرٌ على استقبال ناقلات النفط العملاقة والسفن الضخمة، ولتكون الجزيرة مركزاً لتجميع الغاز والنفط في خزانات هائلة السعة، إلى جانب إقامة العديد من المنشآت والمراكز المرافقة، وصف الكاتب الجزيرة في ذلك الوقت قبل أن تمتد لها يد العمران والبناء والتشييد بأنها الجحيم في أبشع صوره، جزيرة منعزلة عن العالم، شروط الحياة فيها صعبة، ظروف مناخية قاسية تسحق الأعصاب.
حالول جزيرة صغيرة من حيث المساحة، كبيرة من حيث بناء العلاقات الطيبة والانفتاح على الآخر والتفاعل الحضاري الإيجابي، يعمل فيها عمال وموظفون وفنيون من 15 دولة، من ثلاث قارات، أغلبهم عرب ( سوريا، فلسطين، لبنان، الأردن، مصر، وعمال محليون) نشأت بينهم علاقات ودية، إلا مع الأمريكان من شركة «مكديرموت»، يستثنى منهم مارتن.
ومن خلال ذاكرة الكاتب، وهو في الجزيرة، تدور أحداث أخرى في فلسطين ولبنان، حيث عاش أربع سنوات من طفولته الأولى في قرية الدامون في فلسطين والتي تبعد 11 كم إلى الشرق من مدينة عكا، وفي عام النكبة انتقل مع أسرته إلى لبنان ليقيم في أحد مخيمات اللجوء.
تدور أحداث هذا الجزء من الثلاثية في ستينات القرن الماضي عندما كانت دول الخليج سوقاً مفتوحة للعمل جلبت إليها الطامعين بثروتها النفطية من البلدان الاستعمارية، كما جلبت الحالمين بتحسين ظروفهم المعيشية من بلدان الفقر، امتدت هذه الفترة الزمنية من وجوده في الجزيرة على مدى ستة شهور، من وصول بطل الرواية إلى الجزيرة إلى أن غادرها مفصولاً من عمله في الشركة الأمريكية، وإذا أردنا من خلال السرد أن نتبين الزمن في الجزيرة بدقة يمكن تحديده من نهاية حزيران 1964 إلى كانون الثاني 1965.
أهم شخصيات الرواية وبطلها والذي تدور حوله أحداثهاهو عدنان الشخصية الرئيسية، فلسطيني من قرية الدامون في الجليل، لجأ مع أسرته عام النكبة إلى لبنان وعمره أربع سنوات، ذاكرته عن النكبة تحتفظ بالقليل عن المأساة التي مر بها عموم أبناء شعبه، كانت أمنيته أو ما خطط لمستقبله بعد أن نال شهادة الثانوية أن يلتحق بدورة للضباط في العراق لكن الدورة ألغيت، فدرس في مركز التأهيل المهني التابع لوكالة الغوث «الأونروا» فرع التجارة والمحاسبة، فحصل على علامات شبه تامة في أغلب المواد، فكان لذلك أول المتعاقدين للعمل في الخليج، شعاره عندما جاء للعمل في الجزيرة -كإداري في أعمال السكرتارية، ثم انتقل إلى غرفة الراديو ليدير الاتصالات مع السفن القادمة- شعاره «لا للفشل» لكن ذلك لا يعني أن يقبل الإهانة أو المذلة من أمريكي متغطرس، فقد رضع عدنان مع حليب أمه الكرامة الشخصية والكرامة الوطنية، ومن هنا نذر عدنان نفسه للعمل الجاد والنضال في إطار حركة القوميين العرب، ولاحقاً في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومن الشخصيات الثانوية في هذا الجزء، منير وعامر صديقا عدنان في الغربة والعمل، منير فلسطيني لاجئ في لبنان، وعامر فلسطيني من إحدى قرى الضفة الغربية، رضا شقيق عدنان الأكبر يكبره بأربع أعوام يقيم في بيروت يتواصلان عبر الرسائل ليخبره عن الحركة لوطنية الفلسطينية ومستجداتها.
أما الشخصيات الأمريكية في هذا الجزء من الرواية، هم: المدير العام، ونائبه، والمستر مارتن، الأول شخصية منفرة رجل ضخم الجثة طويل القامة، وجه صارم المعالم، متغطرس في سلوكه، يعكس نمط الشخصية الأمريكية التقليدية المتعجرفة، يعتقد أن الموظفين وجدوا لخدمة ذاته الكريمة، وأنهم ليسوا أكثر من أدوات صغيرة، والثاني: شخصية نائب المدير العام أو المدير التنفيذي شخصية مختلفة عن رئيسه، شخصية عملية ومقبولة نوعاً ما، الشخص الأمريكي الثالث نسخة أمريكية مختلفة، المستر مارتن رئيس المخازن، استقبل عدنان عندما انتقل للعمل مساعداً له مرحباً بوجه بشوش، يصفه الكاتب بأنه متدفق مريح واضح متواضع، وأنه أكثر عدائية للسياسة الأمريكية من عدنان نفسه، والتي (حسب مستر مارتن) تمارس أبشع الأساليب في التعامل مع الآخرين، وقامت على القتل والتنكيل والعنصرية والتعالي، وأبادت شعوباً بكاملها.
ولأن مسرح الأحداث أمكنة ثلاث فإن تقسيم الأحداث يتشعب إلى ثلاثة محاور: أحداث جرت على أرض جزيرة حالول، أحداث جرت في فلسطين، وأخرى جرت في لبنان.
في الجزيرة تتصاعد الأحداث منذ البداية، تحديداً في اليوم الثاني لوصول عدنان إلى الجزيرة، بتصادمه مع المدير العام الأمريكي، كأن العلاقة المباشرة بينهما صب الزيت على النار، متجاوران في غرفتين ملاصقتين، تعاملهما وثيق كسكرتير، ينتهي الخلاف بنقل عدنان مبتعداً عن التماس مع المدير العام.
لعل الحدث الأبرز الذي يقود إلى خاتمة هذا الجزء، بمغادرة الجزيرة والعودة إلى لبنان، نابع من انتمائه لحركة القوميين العرب حين راح عدنان يتعرف على كل القادمين إلى الجزيرة ولاسيما من بلاد الشام، وعمل على تأطير الأعضاء الوافدين في خلايا وارتأوا ضرورة تشكيل هيئة قيادية بصورة سرية للتصدي للمهام التي تعترضهم، وفي الطليعة منها تحديد ساعات العمل لموظفي التعاقد الخارجي، شركات التعاقد الخارجي سرقت الجميع من خلال تخفيض الرواتب إلى ما يعادل النصف، أما الشركة الرئيسية فتسلب من كل العاملين والموظفين أربع ساعات عمل يومياً، كما يسرقون العطل الأسبوعية، وعطل الأعياد والمناسبات الرسمية والوطنية التي ينعم بها المتعاقدون المحليون، فائض العمل يقدر بمعدل ست ساعات إضافية حيث يعملون 12 ساعة يومياً، لابد إذاً من تبني قضايا العمال والموظفين والدفاع عن حقوقهم المشروعة ورفع الغبن الذي لحق بهم جراء الاستغلال البشع لحاجة هؤلاء الماسة للعمل، تنصلت لجنة العمل والعمال في الدوحة من أية مسؤولية عن العقود الخارجية، وطبيعة العمل في الجزيرة لا تسمح لمندوبي العمال بالاتصال بالمحامين، وهكذا أمام انسداد الآفاق كافة تبين أن لا سبيل إلى نيل حقوقهم إلا اللجوء إلى الإضراب العام، وهذا يتطلب وحدة الإرادة وصلابة الموقف، صيغت رسالة بالمطالب، وتم تقديمها إلى الإدارة، لكنها رفضت، في اليوم التالي رفض العمال والموظفون القيام بالأعمال المطلوبة منهم، تحركت الإدارة بسرعة، وفي حشدهم ألقى المدير خطاباً مؤكداً رفضه لمطالبهم، مهدداً قادة التحرك، منبهاً الموظفين إلى خطورة الإضراب، بأنه تنصل من التزامهم بشروط عقود العمل، وهذا يعفي الشركة من أي التزام تجاههم، وسيعتبرون مستقيلين.
رد عدنان مؤكداً على استمرار الإضراب حتى تحقيق المطالب، قال المدير بأعلى صوته: من يريد أن يواصل العمل ليصطف هنا إلى اليمين. في البداية شعر عدنان خلفه بحركة بطيئة تحولت إلى جلبة فيما بعد، نظر باتجاه اليمين، فوجد حشداً كبيراً يقف حيث أشار المدير، نظر خلفه فلم يجد سوى صديقه منير، كان بإمكان منير أن يلتحق بالآخرين، لكنهما وقفا بصلابة معاً، وقد تفهما موقف الموظفين، كانا يدركان حاجة الجميع للعمل، ظلا على موقفهما من رفض العودة للعمل، فغادرا إلى الدوحة ثم إلى بيروت، وبعد أسبوعين في بيروت في ساحة البرج يلتقيان مصادفة، لم يكن منير ساخطاً على من كان سبباً في فقدان عمله لكن أسرته كانت كذلك، وعند الغروب افترقا وانتهى الجزء الأول من الرواية.
على أرض الجزيرة ثلاثة أحداث أخرى مترابطة، تتعلق بالعدوانية وبالتعالي الأمريكي على الآخرين، وكان من تداعياتها أن الأمريكيين باتوا أكثر حذراً، يبتعدون عن الآخرين، حادثة شاحنة مسرعة كادت تصطدم بسيارة مهندس أمريكي، وحادثة سقوط مولدة كهرباء من رافعة ضخمة في المرفأ تصادف مرور خبير أمريكي بجوارها، وحادثة الطعن، حين هاجم شاب خليجي أحد الأمريكيين وطعنه بخنجر، وهو يصرخ: لبيك يا جدي، تم علاج جروح المصاب في الوحدة الإسعافية، وفي اليوم التالي حضرت شرطة وأجانب من الدوحة، عاينت وحققت واعتقلت وغادرت مصطحبة المهاجم وثلاثة عمال محليين، تبين لعدنان أن الطعن لم يكن حادثاً عرضياً، بل جاء في سياق قضية وطنية انتقاماً لهمام القاسمي أحد أبرز القادة الذين وقفوا ببسالة في وجه الإنكليز وقاوم تمددهم في الخليج، لكنهم تمكنوا منه بالمكر والخديعة.
في مسرح الأحداث الفلسطيني، ما جرى في القرية الفلسطينية الدامون وتهجير أهلها منها في عام النكبة، أخته الصغرى ذات العامين نُسيت على جانب الطريق في وعاء العجين، فعادت أخته الكبرى مسافة طويلة لتجلبها. عدد من المهجرين لم يحتمل ابتعاده عن أرضه فعاد من حيث أتى، أما أسرة عدنان فقد وصلت إلى المحطة الأولى في لبنان ثم واصلت سيرها نحو الشمال، وراحت الأسر تستقر في مخيمات قررتها السلطات في مختلف المناطق.
وكان أهم حدث بعد النكبة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية قبل شهر واحد من سفر عدنان، وزيارة أحمد الشقيري للبنان للاحتفال في الملعب البلدي لمدينة صيدا، قرر طلاب مركزيّ دار المعلمين والمركز المهني التجاري المشاركة في الاحتفال، لكن إدارة المركزين أبلغتهم بالمنع الصادر عن المكتب الثاني اللبناني، فقرر الطلاب التحدي مهما كلف الثمن.
من الوصف الجميل في هذا الجزء من الرواية وصف قرية الدامون، يتغزل بجمالها وكأنها حبيبته، حين يقول: « دامون يا ذات الوجه الرائع الجمال، والقوام الرشيق، أتخيلك ولا أستطيع لقاءك، أو حتى رؤيتك، أشتاق إليك، أعبدك، يا ذات الجدائل المشغولة عبر السنين، والطويلة طول السنين، أيتها الصبية الكنعانية الرائعة ، حبيبتي أنت، أنت الوحيدة التي يشاركني الكثيرون في حبها، ولأجلك أحبهم كلهم، ولأجلك أقدم دمي فداء لك ولهم، بكل رضا وسرور....
ما الذي أدى إلى تطور أحداث القصة مرتبة ومنظمة في حبكة تقود إلى العقدة؟. ثم كيف كان الحل في الخاتمة؟.
عدنان ينهي دراسته الثانوية، أسرته لاجئة فلسطينية فقيرة لا تملك المال الكافي لتلبية تكاليف متابعة دراسته الجامعية، يقرر التوقيع على عقد عمل لتحسين ظروف معيشة أسرته، المفارقة هنا أنه يعمل في شركة أمريكية وله موقف عدائي مسبق من أمريكا الاستعمارية له أسبابه الوطنية، المفارقة الثانية أن حقوق شعبه الوطنية مسلوبة، يقابلها حقوق عمال مسلوبة وهو واحد منهم في الشركة الأمريكية، مواقفه الفكرية والوطنية والسياسية تأبى أن يقبل هذه الحالة من الاستغلال البشع، يأطر العمال والموظفين، لتقود هذه الأحداث إلى عقدة الإضراب، الأحداث تترابط وتؤكد أن النضال من أجل الحقوق الوطنية لا تنفصل عن النضال من أجل العدالة الاجتماعية ،وأن النضال ضد الجشع الاستعماري الذي ينهب الشعوب، لا ينفصل عن النضال ضد جشع الشركات الاحتكارية التي تهضم حقوق العمال والموظفين، وهذا برأيي هو مغزى القصة، وهذا متجسد في فكر ومبادئ بطل القصة، وهو ما يفسر صلابته في موقفه من رفض العودة للعمل دون تحيق مطالب العمال بحقوقهم، وهو ذات الأمر في الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني التي لا تنازل عنها ولا انتقاص منها، وهكذا كانت النهاية منطقية كنتيجة لسبب، العقدة التي تتمثل في الإضراب، كان حلها: خضوع العمال للتهديدات بالفصل وتراجعهم عن مطالبهم، وفصل عدنان ومنير من العمل في الشركة، ةكان هذا هو هزيمة مرة لعدنان، نهاية مفتوحة تؤكد أن الصراع بين الحق والباطل لم تنتهِ بعد سواء في جانب العدالة الاجتماعية، أم في جانب الحقوق الوطنية، كما هو حال القضية الفلسطينية. وتدفع هذه النهاية القارئ للتساؤل ليس عن حتمية النصر، بل متى يتحقق هذا النصر؟.
يعيب الكثير من القصص التي تتناول الهم الوطني مشكلة الخطابية المباشرة والابتعاد عن متعة الفن القصصي، ولا سيما إذا كان الكاتب مناضلاً صلباً تمرس في المقاومة وفكرها واعتاد الخطاب السياسي سماعاً وقولاً، فالمتوقع أن يستطرد في رتابة السرد من نمط واحد لعرض مواقفه ومبادئه كأنه يريد دحض الفكر الآخر، أو يبرهن على صحة قناعاته، ذلك متفهم وخاصة من قارئ وطني متحمس، ومن حق كل فرد الدفاع عن أفكاره، لكن حين يريد الكاتب أن يقوم بذلك، فعليه أن يلتزم أسلوباً يراعي فيه الشروط الفنية للأدب الذي يكتب فيه شعراً أو رواية أو غير ذلك من وجوه الأدب والفن، من هنا الفن الروائي يتطلب أسلوباً قصصياً أكثر متعة في عرض الآراء والمواقف، مثل الحوار السلس بإبداء الرأي وعرض وجهات النظر والمواقف والالتزام والمعارضة، والوصف والتحليل، فلاشك أن الكاتب دخل في نقاشات مطولة مع مؤيدين ومعارضين لخطه السياسي، ومتفقين ومختلفين معه، في القضايا الوطنية والسياسية والفكرية، وربما كانت له حوارات ساخنة، وإظهار هذه السخونة في الحوار أو حتى البرودة واللامبالاة، وردود الفعل يضفي جمالاً على العمل القصصي، ويمنح القارئ المتعة في متابعة أحداث النص ويبعده عن الملل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت