- إيمان عنان
- ماجستير علوم سياسية
تعاني أغلب الدول العربية من تداعيات التضخم الذي ضرب الاقتصاد العالمي، وتتزايد التحذيرات من احتمال حدوث توترات اجتماعية بسبب الأزمة الاقتصادية، حيث دخل الاقتصاد العالمي في أزمة تضخم كبرى نتيجة لعدة عوامل أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، سبقتها تداعيات جائحة كورونا، وكذلك أزمة سلاسل الإمداد في الصين وجنوب شرق آسيا.
أصبح غلاء المعيشة هاجساً يؤرق العائلات وينذر بانتفاضات شعبية، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات نظراً لارتفاع تكلفة الإنتاج، كما تعرضت أسعار الطاقة (الغاز والبنزين والسولار)، وأسعارالمنتجات الغذائية لتغيرات هائلة، مما جعل رواتب الناس لا تكفي للحصول على احتياجاتها.
ومن المؤسف أن آثار هذا التضخم ظهرت بشكل أوضح وأكثر تأثيراً على الأسر في المجتمعات العربية محدودة الدخل التي أصبحت تعاني من ارتفاع قيمة فواتير المياه والكهرباء والبنزين والغاز، إضافة إلى ارتفاع أسعار الغذاء، وامتد ذلك التأثير حتى لأفراد الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا والتي تجد يومياً أن قيمة مدخراتها تتراجع نظراً لانخفاض القوة الشرائية لتلك المدخرات في البنوك.
تدهورت مستويات المعيشة في العالم العربي بشكل كبير خلال العام الماضي، وفقدت العملات العربية ولاسيما اللبنانية والتونسية نسبة مهمة من قيمتها تجاه الدولار الأمريكي بسبب الفساد المالي وسوء التدبير الإداري وانعدام خطط تنموية قوية واللجوء إلى الاستيراد بدل البحث عن سبل الاكتفاء الذاتي، وسوء استخدام الموارد المتاحة.
كشفت عدداً من التقارير الدولية بشأن توقعات النمو الاقتصادي في معظم الدول العربية خلال عام 2023، مثل صندوق النقد الدولي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا المعروفة اختصار بـ "إسكوا" أن عام 2023، لا يحمل أخباراً سارة لمواطني العالم العربي. وبررت ذلك بأن الواقع الاقتصادي السائد في الدول العربية غير النفطية سيء للغاية، ولا يبدو أنه سيتحسن مستقبلا ما لم تتوفر سياسات وطنية ناجعة وظروف دولية مواتية.
ووفقاً لتقرير "إسكوا"، سجلت معدلات البطالة بين سكان العالم العربي نسباً هي الأعلى عالمياً وارتفعت مستويات الفقر في العالم العربي، خلال عام 2022 مقارنة بالسنوات الماضية، وبات ثلث المواطنين العرب يعيش تحت خط الفقر، فقد ناهز عدد الفقراء في العالم العربي حوالي 130 مليون شخص. وتوقع التقرير أن يتواصل ارتفاع هذا العدد خلال عامي 2023 و2024 ليصل الى 36% من مجموع سكان الدول العربية.
وبموازاة مع ارتفاع نسبة الفقر ارتفعت نسبة التضخم في المنطقة العربية خلال العام، وطبقا لبيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي فإن الدول العربية غير النفطية تئن تحت وطأة مديونية ثقيلة، حيث بلغ مجموع الديون العربية من الصندوق نحو 25.6 مليار دولار.
تعتبر تونس ولبنان النموذج الأكثر بؤساً لعدة أسباب، حيث شهدت تونس نسباً عالية من التضخم، توقع المعهد الوطني للإحصاء أن تصل في نهاية 2022 الى 7.3 بالمئة و 8.3 بالمئة في 2023، وتعتبر هذه النسب مقلقة جداً، وأشار تقرير نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" إلى أن تونس بالكاد تتمكن من دفع رواتب الموظفين وسداد ديونها الخارجية.
زادت جائحة كورونا من نسبة التضخم في تونس، إذ أجبرت أصحاب الأعمال التي تستلزم تواصلًا مباشرًا بالعملاء على إغلاق أعمالهم. وأظهر تقرير البنك الدولي أن أكثر القطاعات تأثرًا بالجائحة كانت قطاعيّ السياحة والتجارة الدولية. وبالتالي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 9.9% في عام 2020 بعد نمو قصير بنسبة 0.9% في عام 2019.
ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا ودفعت بالتضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وتسببت في عجز بمخزن الطاقة والحبوب في دول مختلفة تعاني من اقتصاد ضعيفة مثل تونس.
وحصلت تونس على قروض من البنك الدولي بحوالي 2.1 مليار دولار. توقع محافظ البنك المركزي التونسي أن يبلغ معدل التضخم 11% المتوسط في 2023 ارتفاعا من 8.3 بالمئة في 2022. وأشار صندوق النقد الدولي في بياناته "تباطؤ النمو في تونس على المدى القريب، بينما سيؤدي ارتفاع أسعار السلع الأساسية المستوردة، إلى الضغط على التضخم وكذلك على الميزان الخارجي والمالي لتونس. ووفق قانون الموازنة لعام 2023، تخطط الحكومة لتعبئة موارد خارجية بقيمة 14.8 مليار دينار (4.7 مليارات دولار)، مقابل قروض داخلية بقيمة 9.5 مليارات دينار (3 مليارات دولار).
أما لبنان، يعيش المواطن اللبناني تحت وطأة مستويات غير مسبوقة لارتفاع أسعار الاستهلاك، وذلك بفعل تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات، انزلاق لبنان إلى دوامة ارتفاع أسعار الاستهلاك، لا يرتبط بشكل مباشر بما يعيشه الاقتصاد العالمي من تضخم في الأسعار، بل هو ناتج عن استمرار انهيار العملة المحلية، التي فقدت أكثر من 95% من قيمتها، ما انعكس ارتفاعاً بأسعار السلع المستوردة، والخدمات وحتى السلع المصنعة محلياً نظراً لارتباط كلفة انتاجها، بأسعار الطاقة والمواد الأولية المستوردة.
احتلت لبنان الترتيب الثالث عالمياً والأول عربياً في قائمة الدول الأكثر تضرراً من تضخم الغذاء بعد أن سجلت البلاد ارتفاعاً بنسبة 143% في أسعار المواد الغذائية بنهاية شهر يناير2023. وتعرض لبنان على مدار ثلاث سنوات لأزمة متعددة الأبعاد هي الأكثر إيلاماً وتأثيراً في تاريخه الحديث، إذ تفاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية المتواصلة التي بدأت في أكتوبر 2019 بفعل التداعيات الاقتصادية المزدوجة لتفشي جائحة كورونا والانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس 2020.
واجهت لبنان نقصًا مماثلًا لتونس في بداية انهياره الاقتصادي في 2019 بسبب جائحة كورونا، مما خلق بعض أوجه التشابه بين تونس ولبنان، إذ يعتمد اقتصاد الدولتين على الاستيراد، مما يجعله عرضة للصدمات الخارجية، لكنهما تختلفان في أسباب انعدام الاستقرار السياسي، حيث إن حل الأزمة الاقتصادية في لبنان يعوقه عجز النخبة السياسية التي يفرقها التحزب والطائفية ويمنعها من تشكيل حكومة، وقد تسبب ذلك الوضع في منع مساعدات من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار. وتعاني الدولتان من الاحتكار، إذ تتركز الثروة والأصول في أيدي عدد من الأثرياء الذين يسيطرون على شركات الطيران الوطنية والبنوك المركزية والواردات الغذائية، في ظل هذا الوضع تخضع أسعار السلع والخدمات لأهواء الأسواق السوداء والتكتلات الاحتكارية، فضلًا عن تأثير الفساد المنظم.
تعبر المؤسسات المالية الدولية ومراكز الدراسات عن صورة قاتمة عن الأوضاع الاقتصادية لدول العالم والدول العربية على وجه الخصوص. وتضع تلك الدراسات علامات استفهام كبيرة حول مستقبل دول عربية أنهكتها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل تونس ولبنان واليمن. فيما يتنبأ الصندوق باستمرار نسبة التضخم في مستويات مرتفعة هذا العام وتراجع معدل النمو العالمي إلى 2.7%، هناك تحذيرات من أن القادم قد يكون أسوأ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت