فنان صديق الشيخ

بقلم: أسامه الفرا

أسامه الفرا.jpg
  •   د. أسامه الفرا

أخذني الفضول لتتبغ خرائط غوغل حتى ألقت بي وسط سيد أحياء القاهرة الراقية قبل أن يتنازل مجبراً عن مكانته، كأنه يمسك اليوم بجادة الوسطية خشية أن يفقد المزيد من شخصيته، ما زالت ملامحه تحمل شيئاً من إرث الماضي، لكنها غير كافية لأن تحفظ له مكانته وسط سيل التطور العمراني الذي تشهده مصر، وسط الإزدحام الذي إنقض دون شفقة على الهدوء الذي كان يميز حي المعادي أخذت أفتش عن مسجد حسين صدقي، أوقفني دليلي الجغرافي في هاتفي أمام مبنى يرتفع بعدة درجات عن منسوب الأرض تفضي إلى أبواب زجاجية سيطرت على واجهته، حتى يخيل للعابرين بأنه صالة عرض تجارية إلى أن تفصح المئذنة التي تعلوه وسط أبراج سكنية تحتضنه عن هويته، مساحته الصغيرة جعلته في مكانة أقرب إلى المصلى منه إلى الجامع فيما الحداثة سكنت جنباته حتى حطت رحالها في منبره الزجاجي، قصدت المسجد أبحث عن إجابات فزادني المكان غموضاً.

لا يحمل المسجد إسم أحد الصحابة أو التابعين، بل إسم الفنان المصري حسين صدقي "فتى الشاشة الأول" حيث زخرت السينما المصرية بأفلامه الرومانسية، شيده على نفقته الخاصة وقت كان نجمه يسطع في سماء الفن، المهم أن المسجد رغم مساحته الصغيرة وبساطته المعمارية إلا أن قيادة مصر السياسية والدينية شهدت حفل إفتتاحه عام ١٩٥٤، يتقدمهم اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية والبكباشي جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء وأنور السادات رئيس مجلس الآمة بجانب محمود شلتوت شيخ الأزهر لاحقاً، يذكر أن الممثل حسين صدقي ربطته صداقة قوية بشيخ الأزهر "محمود شلتوت"، إلا أن المثير للإنتباه أن سيد قطب صاحب الفتاوي التكفيرية نصح الفنان حسين صدقي وقت كان يفكر الأخير بإعتزال التمثيل بألا يفعل ذلك وأن يواصل العمل بأفلام هادفة.

كأن المكان يأبى أن نغادره قبل أن نتبع تداخل خيوطه الأخرى، ففي ذلك المكان نشأ أيمن الظواهري الذي إعتاد أن يذهب لذلك المسجد الصغير، وفيه تشبع بالكثير من الأفكار التي أخذت به إلى قيادة تنظيم القاعدة، والمثير للإنتباه أن الظواهري نشأ في بيئة حاضنة للتنوع الفكري رافضة للتطرف، فجده لأمه "عبد الوهاب عزام" الأديب والفيلسوف والسياسي صاحب الإنتاج الغزير في الأدب الفارسي والتركي وصديق طه حسين، والذي أمضى حياته يبحث عن نقاط إلتقاء للحضارات المختلفة وكان يرى في الدين الإسلامي دين محبة وإخاء، وإبن عم جده "عبد الرحمن عزام" جيفارا العرب كما كان يلقب هو أول أمين عام لجامعة الدول العربية، وإبن خالته حفيد رفاعة الطهطاوي، وإبنة خالته "رضوى عاشور" زوجة الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي ووالدة الشاعر تميم البرغوثي صاحبة الفكر اليساري، ناهيك على أنه عاش في أسرة ميسورة الحال في ربوع أرقى أحياء القاهرة، وبالتالي نشأته جاءت في بيئة لا تتوائم مع التطرف والإنغلاق على الذات، بقدر ما هي بيئة تشع بالتنوع الفكري ولديها موروث ثقافي صقلته التجربة، فمن أين وكيف نما التطرف لديه؟.

أخذت أفتش في المكان عن إجابات لأسئلة ظلت عالقة بين الشيء ونقيضه، ولأخرى يكتنفها الغموض وتأخذك بعيداً عن المنطق، ووسط دوامة الأفكار التي تطوف بك أرجاء المكان قبل تتركك عند ركن فيه جاء صوت الإمام بكثير من الخشوع يدعو المصلين إلى رص الصفوف، حين هممت بمغادرة المكان تذكرت ما قاله صديقي بأن المرء تنتابه راحة نفسية في المكان قلما يجدها في مكان آخر، لم أكترث حينها لما قاله سيما أنه لم يعط تفسيراً لذلك، وفي غياب المنطق تصبح الأمور عصية على الفهم، لكن يبدو أن صديقي كان محقاً فيما ذهب إليه، وقد يكون من أسباب ذلك أن أبناء الفنان حسين صدقي هم من يعتنون بالمسجد ويسعون لتقديم كل سبل الراحة لعماره، تبقى قيمة المكان في التاريخ المرتبط به، وفي تفاصيل صغيرة تحمل بين طياتها الكثير.    

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت