- أسامة خليفة
- باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
يصادف اليوم 28 أيار الذكرى الـ 59 لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ففي مثل هذا اليوم من عام 1964، انعقد أول مجلس وطني فلسطيني في القدس (استمر حتى 2 حزيران/ يونيو)، وحضره 242 مندوباً فلسطينياً و انتخب المجلس أحمد الشقيري رئيساً له، وأعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية قيادة لتعبئة قوى الشعب الفلسطيني لخوض معركة التحرير.
في سياق الحديث عن مسار متراجع لمنظمة التحرير الفلسطينية، يقود بالتأكيد للحديث عن مسار صاعد سابق لمسار الانحدار، وهو مسار امتد من التأسيس كانون الثاني/ يناير 1964 إلى قيام السلطة الفلسطينية، وتحديداً في 25/4/1996 في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الحادية والعشرين في غزة.
اتخذ القرار بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، بعد قرار سابق من القمة العربية في القاهرة (بين 13 و17 كانون ثاني/ يناير 1964) بتشكيل منظمة تمثل الشعب الفلسطيني، وتعبر عن هويته وإرادته الوطنية، وتطالب بحقوقه، وتقود نضاله وتقرير مصيره لأجل تحرير وطنه وبناء دولته المستقلة عبر كل أشكال النضال.
وقعت هزيمة حزيران بعد ثلاث سنوات من قيام منظمة التحرير الفلسطينية، ووقعت كامل فلسطين التاريخية تحت الاحتلال، وانطلقت حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة والتي حظيت بتأييد شعبي واسع، مكَن منظمة التحرير الفلسطينية من التحرر من الوصاية العربية، وسيطرت الفصائل الفلسطينية على هيئات المنظمة في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في تموز 1968، كما نجحت في إدخال تعديلات على بنود الميثاق القومي المقر في سنة 1964، تعزز طابعه الوطني الفلسطيني على حساب طابعه القومي العربي، فعوضًا عن البند الذي يشير، في الميثاق القومي، إلى أن فلسطين «وطن عربي تجمعه روابط القومية العربية بسائر الأقطار العربية»، وأنَّ الوحدة العربية وتحرير فلسطين «هدفان متكاملان، يهيئ الواحد منهما تحقيق الآخر»، حلَّ، في الميثاق الوطني، بند جديد، يشير إلى أن فلسطين هي «وطن الشعب العربي الفلسطيني»، وأنَّ هذا «الشعب هو صاحب الحق الأول والأصيل في تحرير واسترداد وطنه»، وهو يرفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية. وتجاوبًا مع هذا التوجه، حُذف من بنود الميثاق الجديد البند الذي كان يشير في الميثاق القديم، إلى أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية لا تمارس أي سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية، ولا قطاع غزة، وجرى التأكيد أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الإطار الممثل لقوى الثورة الفلسطينية المسلحة، وهي، على هذا الأساس، «مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله من أجل "تحرير الأرض الفلسطينية بكاملها وممارسة سيادة الشعب العربي الفلسطيني عليها، بما يضمن حق هذا الشعب "في أنْ يقيم لنفسه على أرضه المجتمع الذي يرتضيه، وأنْ يقرر موقعه الطبيعي في الوحدة العربية». وسرعان ما تحوّلت حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة إلى مركز استقطاب لقوى التغيير العربي، التي رأت فيها عامل تثوير للأوضاع العربية، وفي حين كان النضال في مرحلة المد القومي العربي يجري تحت شعار «الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين»، فإنَّ التفاف قوى التغيير العربي حول المقاومة الفلسطينية الوليدة أدى إلى ترسيخ القناعة بأنَّ "تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية".
في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة 1974، تم إقرار البرنامج المرحلي تحت مسمى «برنامج النقاط العشر»، مما قاد إلى إصدار قرار من القمة تعتبر القمة العربية التي عقدت في الرباط عام 1974 باعتبار «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». وهو بدوره قاد إلى اعتراف الأمم المتحدة بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وأهلها لأخذ مقعد «مراقب» في الأمم المتحدة والتحدث باسم الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.
نتج عن اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حكم ذاتي فلسطيني، بعد ذلك وفي دورة المجلس المركزي الفلسطيني في تونس والمنعقدة في 10 تشرين الأول/أكتوبر 1993، أعلن عن تأسيس السلطة الفلسطينية لتكون نواة الدولة الفلسطينية المقبلة على الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس. 1996 انتخب ياسر عرفات رئيساً لمناطق الحكم الذاتي، وفي ذات العام عدلت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها القومي بما يخص الفقرات التي تدعو إلى القضاء على دولة إسرائيل، في تصويت المجلس الوطني الفلسطيني في الجلسة التي حضرها الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون في غزة وشكك بشرعيتها، وبهذا بدأ مسار تراجع منظمة التحرير الفلسطينية الذي أملته سلسلة من التداعيات السياسية نتاج آليات العمل داخل النظام السياسي الفلسطيني، ونتاج سلسلة التدخلات الإقليمية والدولية الهادفة إلى رسم المسار السياسي لمفاوضات الحل الدائم ونتائجها.
في آليات العمل داخل النظام السياسي الفلسطيني، من الملاحظ أن الحالة الفلسطينية شهدت مع ولادة السلطة الفلسطينية متغيرات فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع، عزز ذلك نزوع القيادة المتنفذة إلى تعميق سياسة الاستئثار بالقرار السياسي الفلسطيني وتهميش دور القوى الأخرى وتأثيرها، ولقد أفرزت اتفاقية أوسلو لرئيس السلطة الفلسطينية سلطات واسعة وفرت له الفرصة للادعاء بأن سياسة التسلط والاستئثار إنما تأتي في سياق تطبيق قوانين السلطة الفلسطينية، هذا حدث في ظل حالة من الانقسام السياسي الفلسطيني الحاد من بين نتائجه وأهمها شطب البرنامج المشترك وانفراط عقد الائتلاف الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية ما أدى إلى إضعاف الموقع التمثيلي السياسي للمؤسسة، رغم أن الطرف المفاوض حاول كسب الشرعية باللجوء إلى صندوق الاقتراع لكن مقاطعة المعارضة بكل اتجاهاتها للانتخابات جعل من وجود الطرف المفاوض على رأس المؤسسة غير مرهون ببقاء الائتلاف الوطني العريض.
ويعتبر إرساء السلطة الفلسطينية على نظام يستند إلى الفردية في القرار والقيادة، وغير خاضع للمساءلة للوزراء من قبل المجلس التشريعي أو لسحب الثقة أو الإقالة، تجاوزاً صريحاً على إعلان الاستقلال 15/11/1988 الذي أشار بوضوح إلى النظام الديمقراطي البرلماني كسمة ملازمة للنظام السياسي الفلسطيني.
وتم تهميش منظمة التحرير الفلسطينية لصالح السلطة رغم أن العلاقة كانت تقوم نظرياً بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، على أن الأولى هي المرجعية العليا للثانية ، ورغم أن منظمة التحرير الفلسطينية كموقع تمثيلي وقانوني أمنت الغطاء للمفاوضات، إلا أن واقع الحال كان تشير عكس ذلك، فآليات العمل اليومي كانت تهمش المنظمة لصالح تعزيز السلطة في هذا السياق لعب عدد من العوامل دوراً في إحداث هذا الخلل، فرئيس المنظمة هو نفسه رئيس السلطة ورئيس الحكومة، ولا فاصل بين صلاحياته الواسعة ، وبالتالي كان يملك هامشاً واسعاً من المناورة مكّنه من تهميش كل الهيئات لصالح دوره المنفرد، أما الفريق المفاوض فقد كانوا يحتلون في الوقت نفسه مواقعهم داخل السلطة.
ومن العوامل التي لعبت دوراً في تهميش المنظمة لصالح السلطة أن الثقل المالي انتقل إلى رئيس السلطة ومجمل وزرائها، ومعها كافة الأجهزة الأمنية والإدارية والخدمية في الضفة وغزة، بينما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تشكل كياناً معنوياً، تسلل الشلل إلى مؤسساتها واتحاداتها الشعبية والمهنية.
وقد أدخلت تعديلات على أوضاع السلطة الفلسطينية بهدف بلورة إطار سياسي فلسطيني مؤهل للدخول في مفاوضات الوضع الدائم، فصارت الحكومة الفلسطينية ورئيسها هي المعنية بالعملية التفاوضية، واستحدث منصب وزير المفاوضات، ومنصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، مما أدى إلى احتكاك وتصادم مع رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية وتقليص صلاحياته.
السؤال المطروح هنا : ما المشكلة في أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي الصيغة المؤقتة التي قد ينتهي أجلها التمثيلي بولادة الدولة المعترف بها من قبل المجتمع الدولي؟. طالما أن الدولة هي المحطة المفصلية لمسيرة الشعب الفلسطيني في بناء كيانه الوطني؟.
الجواب ينطلق من خصوصية القضية الفلسطينية ، ذلك أن قيام الدولة على حدود الرابع من حزيران 1967 لن يكون المحطة الختامية في مسيرة التحرر الوطني للشعب الفلسطيني، ولن يضمن حلاً شاملاً للقضية الفلسطينية بكل جوانبها، وقيام الدولة لن يلغي الحاجة الموضوعية إلى استمرار بقاء منظمة التحرير الفلسطينية كإطار موحد للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية التحررية، فتغييب المنظمة، وتغييب موقعها التمثيلي وصولاً إلى تلاشيها سوف يكون له تداعياته السياسية والقانونية على أوضاع الفلسطينيين الذين لم تتحقق لهم سبل العودة إلى الديار، أو الذين لا يستوعبون مباشرة في الدولة الفلسطينية، لمن ينتمي هؤلاء بعد قيام الدولة؟. وما هي جنسيتهم؟. ومن يمثلهم؟. وما هي صلتهم بالمنظمة في وضعها الجديد؟. وبالدولة الفلسطينية؟.
إن منظمة التحرير الفلسطينية موقعها ودورها ووظيفتها التمثيلية الوطنية المستقلة سوف تكون موضع نقاش وتباين محتدمين في صفوف الحركة الفلسطينية، حيث يزداد احتمال أن تحتكر الدولة الموقع التمثيلي على حساب تلاشي الموقع التمثيلي الوطني والسياسي لـمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا المنحى لن تكسر انعطافته الحادة إلا برد الاعتبار للمنظمة من خلال إعادة بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية بمشاركة كل القوى الوطنية على قاعدة برنامج وطني مشترك يحقق هدف تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس ولا يتغافل عن حق العودة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: في النظام السياسي الفلسطيني، الكتاب رقم «12» من سلسلة الطريق إلى الاستقلال التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت