نشر مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي في برنامج الإنتاج المعرفي ورقة تقدير موقف حول عملية "عيلي" الفدائية، وأهمية الفعل والمكان، ومتاهة الحسابات الأمنية.
وأشارت الورقة إلى أنه وبَعد أقل من يومين من أحداث جنين الأخيرة، وتصدِّي المقاومِين البطولي لجيش الاحتلال ومباغتته بكمائن العبوات الناسفة والاشتباكات العنيفة، وجَّه مقاومون فلسطينيون ضربة نوعية إلى المنظومة الأمنية الإسرائيلية بعملية بطولية استَهدَفَت مستوطنة "عيلي"، حَملَت إشاراتٍ إضافيةً حول تطور العمل المقاوم في الضفة الغربية، ستترك أثر بوضوح على حسابات دولة الاحتلال التي اختارت تفعيل الاستهداف عبر الجو في محاولة لردع المقاومين وترميم صورة الجيش، وسط نقاش مشكِّكٍ في جدوى الذهاب إلى عملية عسكرية واسعة في شمالي الضفة.
وأوضحت الورقة تفاصيل العملية التي نجح فيها الشهيدان المقاومان مهند شحادة وخالد صباح في تجاوز إجراءات العدو وأجهزته الأمنية المختلفة، ووصَلا بسيارةٍ إلى محطة وقود في شارع رقم 60 قرب مستوطنة "عيلي"، على الطريق بين نابلس ورام الله، وتمكنا من إطلاق النار من سلاحَي "M16" على حارس أمن ومستوطنِين كانوا في مطعم "حمّص إلياهو" في المكان، ثم على مستوطنَين كانا خارجًا. وخلال اشتباكِهم مع قوة أمنية ومستوطنِين مسلحِين استُشهِد المقاوِم شحادة، فيما تمكَّن المقاوِم صباح من الانسحاب، فشنَّت قوات الاحتلال عملية مطاردة له، واستُشهِد على بعد مسافة ثلاثين كيلومترًا.
وبينت الورقة مواقف فصائل المقاومة الفلسطينية التي باركت العمليةَ ونعت الشهيدَين المنفِّذَين، فيما تبنَّت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الشهيدَين في تصريحَين رسميَّين، وأعلنت أنهما أسِيران سابقان وينتميان إلى "كتائب القسَّام"، وأنهما من قرية عوريف جنوبي غربي نابلس، مؤكدة أن العملية جاءت ردًّا على جريمة الاحتلال في جنين قبل يومين.
وتطرقت إلى مستوطنة "عيلي"، وملامح أهميتها والأحداث السابقة البارزة فيها، اذ تقع في شارع 60، الأساسي للمستوطنين، في وسط الطريق الرابط بين نابلس ورام الله (يربط وسط الضفة بشماليِّها)، وهي أقرَب إلى قرى نابلس الجنوبية (مثل حوارة) منها إلى قرى رام الله الشمالية، ويسكنها نحو 4,500 مستوطن. استولى بها الاحتلال في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2022 على 616 دونمًا أخرى من أراضي قرى اللبن والساوية وقريوت جنوبي نابلس لصالح توسعة "عيلي"، وهي محاطة بحزام استيطاني، خمس مستوطنات وبؤر استيطانية، ومعسكر لجيش الاحتلال، وتعتبر ذات أهمية أمنية وعسكرية وسياسية ودينية لدولة الاحتلال.
واستعرضت الورقة مؤشرات مهمة حملتها الخلية المنفذة للعملية، اذ يَعكس كلٌّ من مستوى التسليح والتجهز واختيار الهدف، والتصوير بوشاحات وشعارات حركة "حماس" قبل الخروج للعملية، أن العملية ناتجة عن خلية منظمة خطَّطَت جيدًا للعملية، وتسلَّحَت جيدًا، ونفَّذَت باحترافٍ عالٍ، فيما فشلت تلك الأجهزة في رصد تنظيم وتجهُّز الخلية للعملية، وحصولهم على السلاح، وتخطيطهم وصولًا إلى نجاحهم في تنفيذ عمليتهم النوعية.
وأظهرت الورقة ما حفلت به مستويات صنع القرار في دولة الاحتلال بنقاشاتٍ حادة وساخنة على مدار اليومين الماضيين، والتي وصلت إلى ذروتها على إثر العملية الفدائية في مستوطنة "عيلي"، وانقسمت النقاشات ما بين المزاودات السياسية من شركاء الائتلاف، خاصةً قادة الصهيونية الدينية وزيرَي المالية والأمن القومي "بتسلئيل سموتريتش" و"إيتمار بن غفير" الذين دعوا إلى تنفيذ عملية عسكرية واسعة ضد شمالي الضفة الغربية.
ووفق الورقة لم يُعلَن رسميًّا عن مخرجات الاجتماع، فيما يبقَى ظاهرًا من تصريحات قادة الجيش ووزارة الجيش أن خيار العملية العسكرية الواسعة في شمالي الضفة الغربية المحتلة ليس الخيار المحبَّذ، على الرغم من حجم الضغط الذي مثَّلَته الأحداثُ الأخيرة، خاصةً عملية "عيلي" الفدائية ومقتل أربعة مستوطنين، إلا أن تقديرات الجيش ما تزال تتمسك برأيها بشأن القدرة على التعامل مع الوضع في شمالي الضفة عبر العمليات الصغيرة والمُركَّزة، فيما بدأ جهاز "الشاباك" يميل أكثر نحو مبدأ توسيع العمليات وتوجيه ضربات أكثر نوعية وأوسَع تأثيرًا لمجموعات المقاومة في شمالي الضفة.
وخلصت الورقة إلى أن عملية "عيلي" تحمل إشاراتٍ إضافيةً حول التطور المستمر للعمل المقاوم في الضفة الغربية، وتؤكِّد أن عامل الزمن يسهم في خلق نواة أكثر صلابة ونوعية وقدرة على توجيه ضربات مؤثرة للاحتلال ومستوطنيه، إضافة إلى اكتساب المقاومين خبرة أمنية أنجحتهم في تسجيل نقاط فشل استخباراتي.
من جانب آخر، تزيد العملية من مأزق مستويات صنع القرار في دولة الاحتلال وشعور المستويين الأمني والعسكري بالعجز، وزيادة العبء على حكومة "اليمين" التي حَملَت في برنامجها وعودًا بتحقيق الأمن بعد عام سجَّل أربعةً وثلاثين قتيلًا هو العدد الأعلى منذ العام 2015، فيما سُجِّل في عهد هذه الحكومة في النصف الأول فقط من العام مقتل ثمانية وعشرين مستوطن، وسط مزاودات وتصريحات علنية مستمرة من قادة الصهيونية الدينية.
وبحسب الورقة، لن يقف جيش الاحتلال ولا أجهزته الأمنية مكتوفي الأيدي أمام موجة العمليات الجديدة وتصاعد الفعل المقاوم، وقد اختار تفعيل الاستهداف عبر الجو لمجموعة مقاومين خلال عملية، ليكون رسالة تهدئة لمجتمع المستوطنين الغضب وقادة اليمين الذي يضغطون لاتخاذ خطوات اكثر سخونة، ومن جانب آخر فهي رسالة ردع للمقاومين، وترميم لصورة الجيش وتأكيد على قدرته على التعامل مع التحديات الناشئة وفي مقدمتها خطر العبوات الناسفة، تجنب الاحتلال اللجوء إلى سياسة ردود الأفعال وبحث عن تحقيق أهدافه، مع مراعاة ألَّا يؤدي ذلك إلى اشعال الوضع أكثر من اشتعاله الحالي، خصوصًا في ظل قواعد الاشتباك التي حددتها المقاومة الفلسطينية، وتمسكها بخيار وحدة الساحات.
الجدير بالذكر أن مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، في برنامج الإنتاج المعرفي، يقوم بتقديم أوراق تقدير الموقف، في قضايا محددة يرى المركز أهميتها، ويتم نشرها عبر المنصات الإعلامية الخاصة به.