ذكرى الاغتيال والشكل الثقافي في المقاومة

بقلم: أسامة خليفة

ناجي العلي وغسان كنفاني.png
  •          أسامة خليفة
  •     باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

36عاماً على اغتيال "ضمير الثورة" ناجي العلي، و51 عاماً على اغتيال فكر فلسطين غسان كنفاني المثقف والأديب المشتبك، اغتيل الفنان ناجي العلي في لندن من قبل جهاز "الموساد" الإسرائيلي، بتاريخ 22 تموز/ يوليو عام 1987، أصيب تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 أب/اغسطس 1987، وسبقه إلى الشهادة غسان كنفاني قبل خمسة عشر عاماً، وفي شهر تموز أيضاً وتحديداً في الثامن منه عام 1972.

« ينتظر أن نأتي» مقال وأربع لوحات، نشرها غسان كنفاني في مجلة «الحرية» في العام 1961، افتتحت بداية رحلة ناجي العلي في امتداد جغرافيا فلسطين، ومدى تاريخها، بل كان قومياً امتد فكره على كل الساحة العربية تاريخاً وجغرافيا، رحلة شبيهة إلى حدٍ برحلة غسان كنفاني، إذ أن غسان ابتدأ نشاطه السياسي في حركة القوميين العرب، وبدأ نشاطه المقاوم بالرسم لفلسطين، وليس بالكتابة، منذ كان معلماً في مدارس الأونروا، عُرف بلوحاته التي زينت جدران مدرسة الأليانس في دمشق، واللافتات التي كان التلاميذ يحملونها في تظاهرات ذكرى وعد بلفور وذكرى التقسيم، وذكرى النكبة وغيرها... لكنه أراد أن يعبر عما يريده بالكتابة فأبدع، كان غسان مهووساً بالكتابة، وكان ناجي مهووساً بحب الرسم، اختلفا في أسلوب التعبير، وتشابها في روح الانتقاد، واشتركا في وحدة الموضوع والهدف، كلاهما لم يريا للفن والأدب وظيفة سوى بوجهة فلسطين والثورة.

في العام 1963، سافر ناجي إلى الكويت وعمل هناك رساماً للكاريكاتير في مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر عن حركة القوميين العرب في الكويت، وهي المجلة التي نشرت أول كتابات غسان كنفاني عندما كان يعمل معلماً في الكويت.

جمع الزمن الفلسطيني بين ناجي وغسان، بينما كان للمكان رأي آخر في اللقاء في الشتات في مخيم اللجوء عين الحلوة، مقر إقامة ناجي العلي المؤقتة بعيداً عن فلسطين، منذ تهجيره مع أسرته من قريته الشجرة قرب طبريا، وتعبيراً عن حالة اللجوء كانت أولى لوحاته خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، شاهدها الصحفي والأديب غسان كنفاني، في زيارته للمخيم فنشر له ثلاثة أعمال من رسومه في مجلة «الحرية» العدد 88 في 25 سبتمبر 1961، وبعدها أفاض ناجي بإنتاج غزير، وصل إلى أربعين ألف رسم كاريكاتوري، خلال 25 عاماً وعشرة شهور. مما جعل الاتحاد الدولي لناشري الصحف، يصفه بكونه واحداً من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، واختارته صحيفة أساهي اليابانية كواحد من أشهر رسامي الكاريكاتير العشرة في العالم، حصل ناجي العلي على جائزة القلم الذهبي لحرية الصحافة من الرابطة العالمية للصحافة عام 1978، وحصل على الجائزة الأولى في معرض الكاريكاتير للفنانين العرب في مدينة دمشق، انتخب سنة 1979، رئيساً لرابطة الكاريكاتير العرب، وشغلَ أيضاً عضوية الأمانة العامة لاتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين.

حركة القوميين العرب جمعتهما، غسان قائداً وناجي مناضلاً، ثم ابتعد ناجي عن الانتماء التنظيمي، في إحدى رسوماته التي تبين رأيه بالمنظمات: صور العديد من الشهداء الفلسطينيين معلقة على جدار، وفاطمة تقول لزوجها معاتبة: كله منك.. احبلي يا فاطمة .. وخلفي يا فاطمة.. فلسطين بدها رجال يا فاطمة.. وبالأخر بيستشهدوا واحد ورا التاني..دفاعاً عن التنظيم والأنظمة.. يا مصيبتك يا فاطمة!!

لكن حقيقة كان ناجي منتمياً إلى الفكر النضالي بالقلم سلاحاً أشد مضاء من الرصاص، يقول غسان كنفاني في كتابه ( الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال : 1948 – 1968) : « ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي .. ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل أحدهما الآخر الأرض الخصبة ..التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرار مسيرتها و تحيطها بالضمانات .. ومن هنا فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها .. وبالتالي فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح ....»، قيل ممن يمجدون البندقية أسلوباً مقاوماً وحيداً، أن ناجي العلي كان شاهداً على أحداث عصره ولم يكن فاعلاً فيها، نعم كان حنظلة الرمز للفلسطيني المتحدي الشاهد على العصر المنتقد والمعارض للفكر المساوم على الحقوق، قال ناجي: «هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب». ناجي العلي كان شاهداً على النكبة وشاهداً على خيمة اللجوء وبؤسها، وعلى انطلاق الثورة، وعلى الواقع العربي وعجزه، لكنه لم يكن غير مبالٍ أو سلبياً نحوها، سجل الوقائع وقال رأيه فيها، هناك من قال إن رسوم ناجي العلي الاستمرار الطبيعي لكتابات غسان، خصوصاً بعد أن صارت هذه الرسوم، منذ أواخر الستينيات ممهورةً دائماً بصورة «حنظلة»، وأخرون قالوا إن ناجي قد سار على طريق غسان: طريق المقاومة الأصعب والأكثر أثراً، ولذلك كان عليه أن يواجه مصير غسان ذاته: الاغتيال، اغتيال غسان كنفاني وناجي العلي كان له هدف واحد هو تحطيم «فكر المقاومة» في الساحة الفلسطينية، فكل ما كتبه غسان كنفاني وعبّر عنه في رواياته وقصصه ونقالاته، وما رسمه ناجي العلي، يبعث الفكر المقاوم ثائراً.

في الذكرى الـ36 لاغتياله، بقي ناجي العلي حياً في الذاكرة، وحياً في صورة حنظلة رمزاً لصاحب حق لا يموت، ناجي العلي لم يمت ولن يموت، لأن ناجي العلي قضية ورسالة، وفكر، وقيم إنسانية ونضالية، سيبقى حنظلة في ذاكرة الناس، منتصراً للفقراء، محرضاً على استرجاع حقوق اللاجئين المنكوبين كاملة دون انتقاص.

وفي الذكرى الـ51 لاستشهاد كنفاني، نتأكد مرة أخرى أن مرور كل هذه الأعوام، لم تذهب بألق أدبه ورقيه، ولم تذهب بشبابه، بقي شاباً في أواسط الثلاثينات من عمره، يمتاز بدأبه وجهده المتواصل على إنتاجه الأدبي والسياسي والنقدي في فن القصة والكتابة بغزارة وتنوع في المقالات والدراسات، بينما اقتصر أسلوب التعبير عند ناجي على فن الكاريكاتير بنوعيه الناطق: بالتعليق على الرسم، والصامت: دون تعليق، والمهم هو إيصال الأفكار بكل أبعادها وصدقها وعفويتها وعمقها، وبشكلها الثوري والتحريضي.

تميزت رسوم ناجي بالنقد اللاذع وهذا ما يسمح به فن الرسم الكاريكاتوري، فأبدع وإبداعه شد انتباه الجمهور إلى رسومه حتى قيل أن ناجي العلي جعل قراء الصحف، ينتظرون بشغف رسوماته كل صباح، ويبدؤون التصفح من الصفحة الأخيرة مهما تكن أهمية الأنباء التي تتصدر الصفحة الأولى، وهذا المحتوى اللاذع أيضاً ما تميزت به مقالات غسان كنفاني التي نشرها في ملحق الأنوار ومجلة الصياد وجريدة المحرر باسمه المستعار «فارس فارس»، ليمكنه من النقد بحرية ودون أي حسابات لردود الفعل على مدى قساوة الانتقاد العميق، حتى لتبدو بعض مقالاته لوحة كاريكاتيرية ساخرة. مثال ذلك: في دفاعه عن الفن الأصيل، ضد كل زعيق باسم الثورية، انتقاده كتاب (لا تشتروا خبزاً اشتروا ديناميت ).. قائلاً : « يسمي كاتبه خليل فخر الدين: القصص العشر ثورية ... ولكنها قصص تدعوس الفن .. ولو كانت المخابرات المركزية تفهم .. لطبعت من هذا الكتاب مئة مليون نسخة وقصفت بها العالم الثوري حتى يطلق الثورية». 

كتابات غسان كنفاني بأسلوبه الواقعي، وواقع الشعب الفلسطيني أنتجت أدبا تراجيديا مأساويا يدور حول النكبة وأحداثها، وعن واقع حياة المخيمات والتشرد، وكذلك رسومات ناجي العلي التي تندرج في كوميديا سوداء موضوعها مأساة النكبة والتشرد والمعاناة الفلسطينية في صورة مداعبة مريرة للمصير التراجيدي الذي انتهى إليه الشعب الفلسطيني عام 1948، و تجربتهما الشخصية كانت جزءاً من هذا الواقع، عاشا النكبة صبيين مدركين لما يجري حولهما، وهزتهما النكسة فأثرتا عميقاً في وعيهما، فنشأا شابين ملتزمين بقضايا شعبهما منتميين ثائرين لأجل فلسطين، وإذا قسمنا زمن قصص ومسرحيات غسان إلى ماض و حاضر و مستقبل ، فالماضي والحاضر كانا مأساويان، لكن فكره الثوري منحه بعداً تفاؤلياً نحو المستقبل، انعكس في أدبه.

تبرز القضايا المعاصرة في رسوم ناجي العلي في عناوين متعددة منها قضية تطبيع علاقة الأنظمة العربية بإسرائيل، يُظهر رسم، مطبّع يقول من خلال لافتة يحملها: الناس على دين ملوكهم، فيكون الرد عبر حنظلة ورجل فلسطيني فقير مرقع الثياب: نحنا ملحدين. وفي رسم آخر، في أحد السجون البوليسية القمعية لنظام عربي انخرط في التطبيع، المحقق يقول: سمعوك تقول لا اعتراف، وإنك كنت ناوي تقول لا صلح، يرد الفلسطيني تحت التعذيب ملقىً على وجهه: كنت ناوي أقول لا إله ألا الله.

تشظي التنظيمات الفلسطينية من السلبيات التي عاصرها وانتقدها ناجي العلي داعياً إلى الوحدة الوطنية، في إحدى رسوماته فلسطيني فقير يشير إلى 13 شخصاً ينتمون إلى 13 تنظيماً فلسطينياً، ويقول لحنظلة: سجّل أنا بريء منهم حتى قيام الوحدة.

أما غسان فقد كتب في العدد الرابع من مجلة الهدف، في يوم السبت 16 آب/أغسطس 1969 مقالاً بعنوان «نحو حوار بناء حول الوحدة الوطنية الفلسطينية»، يتحدث فيها عن أولوية الوحدة الوطنية، وأنها مهمة عاجلة نظراً لمجموع الأخطار والتحديات، المحيطة بالعمل الوطني الفلسطيني، والتي تدعو إلى إيجاد صيغة حقيقية ومتينة لتوحيد جبهة الكفاح الفلسطيني المسلح، يقول كنفاني: « فمثل هذه الوحدة ليست "تكتيكاً" مؤقتًا يسعى إليه التنظيم لمنافسة تنظيم آخر، أو لتحريض تنظيم ثالث، أو لتحقيق مكاسب إعلامية، أو للتخلص من حالة حصار، ولكنها مسألة أكثر جدية، وأكثر خطورة على المدى البعيد، خصوصاً إذا كان التوجه إليها نابعاً من قناعة عميقة بضرورتها التاريخية، وبقيمتها الثورية، وبمعناها المصيري، ولو كانت قضية الوحدة الوطنية قضية مناورة تكتيكية مؤقتة تفرضها ظروف ذات طبيعة خاصة، تنتهي هذه الوحدة بانتهائها، لما كان هنالك أسهل من اتخاذ قرار سريع في هذا الصدد».

 

 

في رسم آخر يعبر ناجي العلي عن رفض أي مساومة أو اعتراف بإسرائيل: فلسطيني يمثل كل مدن وقرى فلسطين من خلال تدوينها على قميصه المفتوح على مدى طرفيه، مبرزاً صدره وقد كتب عليه «لا صلج لا تفاوض لا اعتراف» والتوقيع: لاجئين 48، ويصرح ناجي العلي قائلاً: «كلما ذكروا لي الخطوطَ الحمراءَ طار صوابي… أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقّع وثيقة اعتراف واستسلام لـ «إسرائيل».

كان حنظلة الرمز للفلسطيني المتحدي الشاهد على العصر المنتقد والمعارض للفكر المساوم على الحقوق، قال ناجي: هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب. ناجي العلي كان شاهداً على النكبة وشاهداً على خيمة اللجوء وبؤسها، وعلى انطلاق الثورة، وعلى الواقع العربي وعجزه.

في قضية إيمانه بقضيته لم يداهن أو ينافق لم يراوغ، لم يناور، كان صادقاً حاداً في صراحته ربط القول بالعمل، ظل وفياً لمبادئه رغم كل المخاطر التي أحاطت به، كان صلباً انحاز إلى من هم «تحت» من الكادحين والضعفاء والفقراء والمساكين. يقول ناجي: «أنا شخصياً منحاز لطبقتي، منحاز للفقراء، وأنا لا أغالط روحي، ولا أتملّق أحداً. القضية واضحة، ولا تتحمل الاجتهاد، الفقراء هم الذين يموتون، وهم الذين يُسجنون، وهم الذين يُعانون المعاناة الحقيقية».

ويقول: «لي موقف من الجماهير الكادحة والمسحوقة والمغبونة تاريخياً، أحاول التقاط همومها، فتمتزج في داخلي الهموم». كذلك انتصر كنفاني للفقراء فعكس مجرى حياتهم وبؤسهم وشقائهم في الكثير من كتاباته ولاسيما تلك التي تتحدث عن اعتماد معيشة اللاجئ على إعاشة الاونروا وانتظاره استلامها ليطعم أبناءه الخبز.

أهم شخصيات ناجي العلي شخصية حنظلة الطفل الحافي القدمين، الممزّق الثياب، الذي يدير ظهره دائماً، ويعقد يديه خلف ظهره طول الوقت، إنه ناجي العلي وهو صبي في العاشرة من عمره توقف الزمن عند تلك اللحظة القاسية عام النكبة 1948، حنظلة المرارة شخصية ابتدعها ناجي العلي ظهرت لأول مرة في جريدة السياسة الكويتية، عام 1969م، أدار ظهره وعقد يديه خلف ظهره بعد نكسة حزيران، لا يريد أن يرى الواقع العربي المؤلم العاجز عن استرجاع فلسطين وتحقيق حلم العودة لكل لاجئ أبعد عن وطنه تحت تهديد السلاح. يمثل حنظلة الضمير الحيّ للأمة، الذي يرفض مجرد التفكير في المساومة أو الاستسلام، وعن حنظلة يقول ناجي:

«ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع».

يشبه حنظلة ذاك الطفل في قصة كنفاني ورقة من الرملة، يقول غسان: «أوقفونا صفين على طرفي الشارع الذي يصل الرملة بالقدس، وطلبوا منا أن نرفع أيدينا متصالبة في الهواء، وعندما لا حظ أحد الجنود اليهود أن أمي تحرص على وضعي أمامها كي أتقي بظلها شمس تموز، سحبني بعنف شديد، وطلب مني أن أقف على ساق واحدة، وأن أصالب ذراعي فوق رأسي في منتصف الشارع الترب.. كنت في التاسعة من عمري يومذاك، ولقد شهدت قبل أربع ساعات فقط كيف دخل اليهود إلى الرملة، وكنت أرى وأنا واقف هناك في منتصف الشارع الرمادي كيف كان اليهود يفتشون عن حلى العجائز والصبايا، وينتزعونها منهن بعنف وشراسة، وكان ثمة مجندات سمراوات يقمن بنفس العملية، ولكن في حماس أشد، وكنت أرى أيضاً كيف كانت أمي تنظر باتجاهي وهي تبكي بصمت، وتمنيت لحظتذاك لو أستطيع أن أقول لها أنني على ما يرام، وأن الشمس لا تؤثر فيّ بالشكل الذي تتصوره هي..»

حنظلة أكثر من توقيع ناجي العلي على رسوماته، حنظلة أيقونة تحفظ روحه، وتحفظه من الانزلاق، من أن يتوه، أن تجرفه الأمواج بعيداً عن فلسطين فحنظلة وفيّ لفلسطين، ولن يسمح له أن يكون غير ذلك، إنه نقطة عرق على جبينه تلسعه إذا ما جال بخاطره أن يجبن أو يتراجع. حنظلة البوصلة إلى المكان الذي يصطف فيه ناجي إلى جانب الكادحين، وبوصلة النضال لاستعادة فلسطين بكل شجاعة وثبات.

تكررت في رسوم ناجي شخصيات أخرى رئيسية، أهمها شخصية فاطمة المرأة الفلسطينية القوية كسنديانة شامخة، الفقيرة العنيدة المتحدية تمتلئ شموخاً وكرامة لا تقبل الذل والهوان، لا تهادن وترفض المساومة، إيمانها بقضيتها الوطنية والحقوق الثابتة لشعب فلسطين لا تتزعزع، المستعدة دائماً للمواجهة والتضحية ولا تتنازل عن شبر من أرض فلسطين، في إحدى الرسومات تظهر فاطمة في موقف قمة في التعبير عن حب الوطن في قبضتها حفنة تراب من أرض فلسطين رافضة علاقة الحب التي تربط بعض العرب بالأمريكان، تقول فاطمة: «حفنة تراب من أرض البرتقال الحزين خذها للمسطولين بحب أمريكا .. يمكن إذا شموا هالتراب يعودوا لرشدهم!!»، في هذا ما يذكرنا بقصة «أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني، ما يؤكد أن الربط بين ناجي وغسان ليس مصطنعاً، في إحدى الرسومات فلسطيني يمثل اتحاد القراء والمستمعين الفلسطينيين يقرأ قصة غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» والقرار 242 ينصب المشنقة لمن يقرأ أدب غسان دلالة على أنه تحريضي، وقد نجد تشابهاً بين شخصية فاطمة وشخصية أم سعد في قصة غسان كنفاني، فهي امرأة فلسطينية فقيرة في الأربعين من عمرها، تسكن أحد مخيمات اللجوء، تحمل هموم الوطن، تنجب وفلسطين تأخذ، تحلم بالعودة إلى وطنها وبيتها وأرضها التي هجرت منها، وترى أن ذلك يضع حدًا لمعاناتها من العمل القاسي من أجل لقمة العيش، حتى سعد وقد التحق في صفوف الفدائيين، تفكر كيف تجلب له الطعام وتحتار بوسائل تقديم المساندة، رغم هزيمة حزيران 67 لم تفقد عزيمتها وايمانها بقضية شعبها، بل كانت فخورة بابنها سعد تشجعه على الانخراط في العمل الفدائي، لكن تخاف أن تفقده في ذات الوقت، ولا تعرف ماذا تسمي هذا الشعور.

ليس غريباً أن تتشابه شخصيات قصص غسان، وشخصيات ناجي العلي فهي شخصيات من الواقع الفلسطيني المعاش فيها التنوع والاختلاف في الطباع والمزاج والسمات.. من اللامبالي إلى المتردد إلى المقاوم إلى العميل.. وهذا هو الأهم الموقف من القضية الوطنية الفلسطينية، صلب وجوهر موضوع فن وأدب المبدعين ناجي وغسان، ويغلب دائماً في مثل هذه الأعمال الأدبية والفنية إعطاء مساحة أكبر لوصف الشخصية الوطنية المقاومة، مثال من رسوم ناجي، فلسطيني أمام حنظلة يقول: إن قلت أنا من جماعة عرفات بدهم يقتلوني، وإن قلت أنا مش من جماعة عرفات برضه بدهم يقتلوني .. ممكن أنفد بجلدي إن أنكرت إني فلسطيني.. فشروا!! وكلمة فشروا بالخط العريض، وفي رسم آخر: الأول يكتب على الجدار فلسطين بلدنا، الثاني مكبل اليدين يصرخ: فلسطين بلدنا، الثالث مكمم الفم لكنه يقول في سريرته: فلسطين بلدنا، فيتم اغتياله، لكن حنظلة وطفلة بجواره يكتبان: فلسطين بلدنا.

لا شك أن قصص كنفاني تعج بشخصيات المناضلين واستلهم من الواقع شخصية إبراهيم أبو ديه، في ورقة من الطيرة، يقول: « لم يكن يحارب إلا وهو واقف على قدميه كأنه يلقي خطاباً، وكنا كلنا نندفع إلى الأمام كأننا ذاهبون إلى عرس.. رحمه الله.. أنا أعرف شيئاً كثيراً عن حياته، لقد بدأ صغيراً مع عبد القادر الحسيني يأخذ الرسائل عبر الجبال إلى الرفاق، ثم كبر إبراهيم، وحمل البارودة، ونزل إلى المعركة، كان ذكياً جداً.. وفي 1948 خاض مع رجاله معركة في "ميكور حاييم" وخرج منها بست عشرة رصاصة في ظهره كانت سبب شلله، ثم أمضى أربع سنوات بعدها يتعذب.. أنت تستطيع أن تتصور كيف يكون شعور رجل مشلول أمضى حياته واقفاً على قدميه..»

بالمقابل الصورة التي تتحدث عن المستسلمين: أحدهم يحمل صحيفة خبرها البارز المعنون «المؤتمر الدولي» يقول: إسرائيل ناوية تخوزقنا، الثاني يقول : ما العمل؟. الثالث يقول : بسيطة!! ويدير مؤخرته.

وقدم ناجي صورة للرجل الفلسطيني البسيط، يعيش بهدوء في مخيمات اللجوء يريد أن يؤمن لقمة العيش لأطفاله، هذا الرجل البسيط المرقع الثياب يصدق ما تقوله الأنظمة العربية، فيقول لزوجته المرقعة الثياب أيضا: غلطانة يا فاطمة بالنسبة لقضيتنا بظل في نظام عربي ألطف من نظام، فترد فاطمة: أنا اللي غلطانة يا زلمة.. ولا إنت اللي صرت خرفان من كتر ما لخموك بإعلامهم.

 وعن فقدان الثقة بالأنظمة العربية وإمكانية أن تحرر فلسطين، رسم بصورتين، في الصورة الأولى رجل يقول: بشرفي لأحلق شواربي إذا هالأنظمة حررت شبر من القدس، وفي الصورة الثانية، ذات الشخص بشوارب طالت حتى غطت صدره.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت