- كميل أبو حنيش
- عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
الحلقة الأولى
مقدّمة:
لا سلطةَ تعلو على سلطة الكلمة الحرّة والشجاعة والجميلة في كلّ زمانٍ ومكان، فهي تسطع دائمًا كالشمس من حلكة الظلام، وتنمو كالزهرة على أنقاض دمار الحروب، وتعلو كالشجرة السامقة مهما حاول الأوباش اجتثاثها. تلك الكلمة التي نقلت حياة البشر انتقالًا ثوريًّا من حالتها البدائيّة إلى حالتها الإنسانيّة، فكانت الثورة الكلاميّة هي أول ثورةٍ في تاريخ البشرية لتؤسس لعالم الحضارة والثقافة والتقدّم، فقامت عليها الحضارات ونشأت الأمم والشعوب، فأصبح الإنسان سيّد الطبيعة وسيّد مصيره. ولطالما انتصرت الكلمة في تاريخها الطويل في كلّ المعارك. فلا خسارةَ للكلمة الحرّة المعبّرة عن مضامين إنسانيّة وأخلاقيّة، ووحدها الأفكار المسمومة والهابطة هي من تتهاوى وتسقط، فالزبد يذهب جفاءً، أما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض.
لقد ترك لنا آلاف المبدعين كلماتهم الخالدة. وكثيرون منهم قد قضوا نحبهم متمسّكين بما يؤمنون به، وتركوا لنا تراثهم الذي كان يصل إلينا على أمواج بحر التاريخ مهما تعرّض لمحاولات الطمس والإبادة والإلغاء؛ لأنّ الكلام الجميل بطبيعته، يحملُ سمة المقاومة، ويعرف كيف ينتصر في نهاية المطاف.
وفي تجربة الشّعوب التي تعرّضت لتحدّياتٍ مريرة، ومحاولة استلابها ونهب خيراتها أو إبادتها أو طمس ثقافتها واستعبادها، من قبل القوى الظلاميّة تارة، أو من قبل الدول الاستعماريّة تارةً أخرى، وجدت هذه الشعوب نفسها أمامَ امتحاناتٍ قاسيةٍ ولم يكن أمامها إلا خياران: إمّا الاستسلام وإما المقاومة. وفي الحالة الأولى تكون قد تنازلت طوعًا عن تاريخها ومستقبل أجيالها، وقبلت استبدال ثقافتها وتراثها بثقافة وتراث مغاير. وفي الحالة الثانية، فإنها تلجأ إلى ما تختزنه تجربتها الإنسانية والحضارية، فتواجه بكل ما أوتيت من قوةٍ دفاعًا عن وجودها وثقافتها.
وفي تجربتنا التحررية الفلسطينية، أدّت الثقافة الفلسطينيّة دورها في المعركة التحرّريّة، وكان لها شرفُ المساهمة في الصراع ضدّ أعتى فكرةٍ استعماريّةٍ عرفها التاريخ، واستطاعت أن تصمد وتقاوم وتواصل المعركة بعد أن خسرت البنادق وسكت دوي المدافع. وكان لمبدعينا العمالقة دورٌ بارز في شحذ سلاح الثقافة لإطالة أمد المواجهة، وكانت المعركة الثقافية مع المحتل هي من أعقد المعارك؛ لأنه لا يجوز لنا أن نخسر هذه المعركة؛ ذلك لأننا ببساطة أمناء على أعدل قضية في التاريخ، ولأنّ لدينا مخزون ثقافي – حضاريّ، غنيٌ وكامنٌ في غير الوعي الجمعي الفلسطيني، سمح لنا أن ننهل منه، ونبتكر وسائل في المواجهة، ولأنّ هذا المخزون يملك كل الخصائص الإنسانية اللازمة لمواجهة الثقافة المعادية وأنساقها العنصرية والرجعية والعدوانية وغير الإنسانية والمتعارضة مع قوانين التاريخ وسننه.
إنّ الشعب الفلسطيني يخوض معركته الوجوديّة مع الاستعمار الصهيوني، لا يمكن له أن يحرز انتصاره على أعدائه بالسلاح وحده أو بالسياسة وحدها أو بالعلم والاقتصاد... والخ، إنّما ينبغي أن يشغل العامل الثقافي حيّزه في هذه المواجهة، بل ويمكننا الادّعاء أن المقاومة الثقافيّة والانتصار في ميدانها هو أهم الانتصارات في هذه المواجهة المفتوحة. وتنبع أهمية الثقافة من المعركة من اعتبارين: أولها أن الثقافة تُعبّر عن وجود الشعب الفلسطيني وسيرورته وما ينطوي عليه من تاريخ وإبداعات ثقافية وحضارية وتجارب وخبرات إنسانية وذاكرة جماعية، وبهذا تغدو هذه العناصر السلاح الأهم في مواجهة المُستعمِر، وثانيها أن الثقافة لا تحتاج إلى موازين قوى تقليدية شرطًا لانتصارها، إنما تستمد قوتها من عناصرها الكامنة وتعتمد على الذكاء والإرادة، وقوة الحق والمنطق والروح الأخلاقية والحس الإنساني.
لقد استلّ الفلسطيني سلاح الثقافة منذ بداية الغزوة الصهيونيّة، وعرفت محطات الصراع المختلفة منذ ما يزيد على المئة والعشرين عامًا كتابًا ومؤرخين وشعراء وروائيين ومفكرين وفنانين ومسرحيين، وكرّس المئات منهم حياتهم في خدمة المشروع التحرّري الوطنيّ، ودفع العديد من حياته في ميدان المعركة، معمّدًا إبداعه الثقافي بالدماء. وكانت كلمات أدبائنا وشعرائنا وإبداعات فنانينا، تدقُّ جدران الخزان، وتهز جبال الصمت والتخاذل والنفاق في أرجاء المعمورة، وإلى جانب بنادق الثوار، جرى استيلاد الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة من رحم التاريخ العريق لهذه الأرض. وتحقّقت معجزة البقاء رغم فداحة التنكيل والطمس والإبادة والتهجير، وإزاء ثقافة المقاومة أظهرت التجربة الفلسطينية شكلًا آخر من أشكال الثقافة في مختلف محطات الصراع، حيث انطوى هذا الشكل على كل ما هو هابط ورخيص ومتساوق وانهزامي، شكل يفوح منه الجبن والانتهازية والتسلق والاسترزاق والتسول، لذا اضطرت الثقافة الأصيلة المقاومة أن تخوض اشتباكًا ثانويًّا، مع هذا الشكل المبتذل من الثقافة أثناء خوضها لاشتباكها الرئيسي مع المشروع الثقافي الصهيوني.
وتتسم الثقافة الفلسطينية في العقود الأخيرة بتشعباتها وتعدديتها وسيولتها، وتشهد بعضًا من حالات التشوّه والانحراف، حيث تراجعت قوة الخطاب الثقافي التحرّري الذي كان مميّزًا في المراحل والمحطّات الذهبيّة للثورة، وذلك ارتباطًا بتفاقم أزمة المشروع الوطني التحرّري، وهو ما ينبغي تداركه، وضرورة إعادة بناء المشروع الثقافي الفلسطيني، ليأخذ دوره في المعركة، وإعادة تصليبه، وإعادته إلى مساره الحقيقي، وإحياء رسالته؛ لأنّ رسالة الثقافة الفلسطينيّة في مرحلتها التحرّريّة، يجب أن تبقى تحرّريّةً وإلا فإنّها ستكون رسالةً واهنةً ومنفصلةً عن واقعها، ولن يكون بمقدورها المساهمة في معركة التحرّر الوطني.
إنّ هذه السلسلة من الحلقات التي نخصّصها لدراسة موضوع الثقافة الفلسطينيّة، وتشخيصها، في محاولة بناء مقاربةٍ نظريّةٍ لموضوع الثقافة، والكشف عن مزاياها وعيوبها وطاقاتها الكامنة في هذه المرحلة الصعبة، التي نواجه إسقاطاتها على الأصعدة كافةً.
وقد اخترنا مفهومين متناقضين عنوانًا عامًّا لهذه الحلقات (سقط الزند... وسقط المتاع) وسقط الزند تعني في اللغة: باكورة ما يسقط من شراراتٍ جرّاء احتكاك حجري الصّوان ببعضهما، وقد أطلق الشاعر العبقري أبو العلاء المعري (سقط الزند) اسمًا لديوانه الأوّل، حيث كان باكورة ما أبدعه هذا الشاعر العظيم، وما تضمنته نصوص هذا الديوان من أفكار وتساؤلات، وإبداعات فكرية وفنية وجمالية.
لذا، فإننا نستعير هذا المفهوم، كنايةً عن الثقافة الثورية الملتزمة، وللإشارة إلى حالات الإبداع الثقافي الفلسطيني التي يعوّل عليها في المواجهة. ومثلما كان أبو العلاء المعري يُعبّر عن حالة نهوضٍ في زمن الانحطاط، فإنّ ثقافة "سقط الزند" نحتاجُ إليها في زمن التردّي والانحطاط.
أما المفهوم الثاني (سقط المتاع) فيعني في اللغة: الأشياء التافهة، وما يسقط على الأرض من متاعٍ زهيدٍ لا قيمة له. وسنستخدم هذا المفهوم كنايةً عن الثقافة الهابطة والمهزومة، وللتعبير عن حالة البؤس الثقافي والفكري، وعن تلك الأقلام المسمومة والمبتذلة، التي تحاول بقصدٍ أو بغير قصد، أو بجهل، حرف الثقافة الفلسطينيّة عن مهمّتها التحرّريّة، فكثيرٌ من "المثقفين والفنانين والشعراء" هم عبارةٌ عن سقط متاع ينبغي الالتفات لأدوارهم التخريبيّة المدمّرة في هذه المرحلة الحساسة.
لقد اخترنا هذين المفهومين للتمييز بين ثقافتين أو مشروعين ثقافيين في الساحة الفلسطينية، فثقافة "سقط الزند" هي ثقافةٌ وطنيّةٌ ثوريّةٌ ملتزمةٌ بحدود المرحلة التحرريّة وشروطها، ومدافعةٌ باستماتةٍ عن تاريخ الشعب الفلسطيني ومستقبله، وضرورة شحذه واستنهاضه، وهي ثقافةٌ تقدّميّة، شريفة، غير مأجورة، وأصيلة، وإنسانيّة، ولها نصيبٌ كبيرٌ من الإبداع الفني والقيمي والأدبي والجمالي والأخلاقي، وتتّسم بالجديّة والنزاهة والمصداقيّة والجرأة والتحدّي.
أما ثقافة "سقط المتاع" فهي ثقافةٌ استهلاكيّة، انهزاميّة، انتهازيّة، رجعيّة، هابطة، مبتذلة، متسولة، مأجورة، واهنة، ومعُبّرة عن حالة انحطاط وعبثية، وتمثّل هذه الثقافة ورموزها، مخرزًا في خاصرة الثقافة المقاوِمة.
إنّ ثقافة سقط الزند، هي ثقافة مقاومة للثقافة الصهيونيّة، لذا فهي ثقافةٌ شجاعةٌ وجريئةٌ ومعبّرةٌ عن مصالح الشعب الفلسطيني، وهو يخوض معركته التحرّريّة، ولها رسالتها الوطنيّة المنسجمة مع أهداف التحرّر الوطني، وهي صادقةٌ ومخلصةٌ ونزيهة ومنحازة لقضيّتها، ودون تلك الخصائص لا يمكنها أن تمتلك شروط المواجهة مع الصهيونيّة وثقافتها العدوانيّة، ولن يكون بوسعها عبور الحواجز والأسوار واقتحام الحصون. وفي المحصلة هي ثقافةٌ تُعبّر عن الإرادة الجماعيّة.
أما ثقافة "سقط المتاع" فإنها في مجملها عدمية، وتدعو للانبطاح والتخاذل، وترتكز على الذات على حساب الموضوع، ونجدها منحرفةً مع معالجة القضايا الرئيسيّة، وتنزع نحو القضايا الثانوية والصغيرة، وهي مسترزقة وجبانة بطبيعتها، وتنشد شهرة أصحابها، وتعتمد على إثارة الفضائح ونشر الشائعات، وتعميم نموذج الفهلوة والتذاكي...، وغالبًا ما تكون هابطةً من ناحيةٍ فنيّةٍ ومليئةٍ بالثقوب، وتفقد الإبداع، وفي المحصلة هي ثقافةٌ تعبّرُ عن أمزجةٍ وآراء ذاتية.
ولكن يتعين علينا الاعتراف أن هذا النموذج في تصنيف الثقافة الفلسطينية الراهنة، بهذين الشكلين تعتريه إشكاليّة الجمود والصلابة، وسنكون إزاء نموذجٍ صارم. فكثيرٌ ممن يحسبون على ثقافة "سقط الزند" تتّسم إنتاجاتهم بالضعف وغياب الإبداع، وبعضها قاصرٌ عن معالجة القضايا المهمّة، وتتّسم أحيانًا بالانغلاق والتخلّف والتمترس خلف هُويّاتٍ أيديولوجيّةٍ أو حزبيّةٍ أو دينيّةٍ أو طائفيّةٍ أو إقليميّةٍ لا تخدم بالضرورة القضيّة التحرريّة، علاوةً على إصابة البعض بأمراض النرجسية والبارانويا الثقافية.
في حين نجد أن بعض ممن يحسبون على ثقافة "سقط المتاع" لديهم إبداعاتٌ متنوعة، وتتّسم أعمالهم وإنتاجاتهم بالجدّية والمسؤوليّة والقيميّة بالرغم من توجّهاتهم المنحرفة عن المسار التحرّري، ونزعاتهم الذاتيّة المفرطة.
وعمومًا يتعيّن علينا لكسر هذه البلبلة، أن نتبنى موقفًا ضميريًّا إزاء كلا الشكلين، وأن يكون المعيار الأهمّ في الحكم والتصنيف ضرورة الاجتماع والآفاق على الخلاص من اللحظة الاستعماريّة الصهيونيّة وشرعيّة مقاومتها.
ستعالج هذه الحلقات مجموعةً من العناوين ذات العلاقة بالثقافة الفلسطينيّة الراهنة. وستعرّجُ على عددٍ من قضاياها الشائكة.
ففي الحلقة الثانية من هذه السلسلة سنتطرّق إلى مركزية العامل الثقافي أثناء مرحلة التحرر الوطني، وأهميّتها في مجابهة الثقافة الصهيونيّة، وروايتها الزائفة، واستقصاء عناصر القوّة ومواطن الضعف في ثقافتنا الوطنيّة، ومن جانبٍ آخر خطورة الممارسات الصهيونيّة التي لا تدّخر جهدًا في العمل على طمس الثقافة الفلسطينيّة بل وسرقة رموزها التاريخيّة.
وفي الحلقة الثالثة سنسلط الضوء على إشكاليّات الثقافة التحرّريّة ومظاهرها، وتتلخّص هذه الإشكاليّات بخمسة عناوين رئيسية: ترهل الخطاب الثقافي، تداخل مرحلة التحرر الوطني بمرحلة تشكل السلطة وهيمنة السياسي على الثقافي، ترهل المؤسسات الثقافية والاسترزاق الثقافي إلى جانب عددٍ من الإشكاليات الفرعية التي يمكننا أن نتطرق إليها في السياق.
وفي الحلقة الرابعة، سنميز بين الثقافة المقاوِمة والثقافة الانهزاميّة، فالثقافة الفلسطينية في مرحلتها التحرّرية لا يمكنها إلا أن تكون مقاومة، وتتسم بالصلابة والجديّة والالتزام، وإلّا فإنّنا سوف نخسرُ المعركة الثقافيّة، إذا ما تواصلت عمليّة التسيّب والثقافة السطحيّة والعدميّة، من دون التصدّي لمثل هذه المظاهر التي أخذت لها حيّزًا في الساحة الثقافيّة الفلسطينيّة، التي من شأنها أن تضعف المناعة الوطنية.
أما الحلقة الخامسة فستعالج أزمة المشروع الثقافي الفلسطيني في مرحلته التحررية، محاولين تلمُّس الأسباب الظاهرة والكامنة لهذه الأزمة، والتنبيه من خطورة تحوّل الاشتباك الثقافي الرئيسي مع الثقافة الصهيونية إلى اشتباكٍ ثانوي.
وستركز الحلقة السادسة على إشكالية الخطاب الثقافي التحرري، وسبل تطوير هذا الخطاب ليأخذ دوره في إحراز اختراقاتٍ مهمّةٍ على الساحة الدوليّة. وأهميّة العامل البلاغي والمضمون الإنساني في هذا الخطاب.
والحلقة السابعة سنخصّصها لمقاربة المشروع الثقافي الذاتي في إزاء المشروع الثقافي الوطني، وكيفيّة التوفيق بين المشروعين، وكيف يمكن للمشروع الوطني أن يتضمّن المشروع الذاتي ويدعمه، وسبل التكامل وإدارة التعارض والتناقض ما بين المشروعين.
وفي الحلقة الثامنة سوف نستعرض بعضًا من الأعراض الثقافيّة السائدة، والساحة الثقافية، مدى خطورة استفحالها وتأثيرها على الفعل الثقافي التحرري، التي يمكن إجمالها بأربعة أمراض: (النرجسيّة، البارانويا، الشيزوفرينيا والميوعة الثقافيّة).
وسنخصّص الحلقة التاسعة لأدب السجون، بعد أن تطوّر الاهتمام بهذا النوع من الأدب في الأعوام الأخيرة. مستعرضين سمات هذا الأدب وبعض عيوبه. وسنشدُّ الانتباه إلى تطفّل البعض على إنتاجات الأسرى، ومحاولة ركوب موجتها والتسلّق عليها واستغلالها لتحقيق غاياتٍ شخصيّة.
أما الحلقة العاشرة والأخيرة، سوف نستعرضُ من خلالها بعض المقترحات التي من شأنها أن تسهم بالنهوض بالفعل الثقافي الفلسطيني ومحاولة تطويره، وتخليصه من ركوده وتحريره من أغلاله وقيوده؛ كي يتصدّى لمسؤوليّته الوطنيّة التحرريّة.
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت