- كتب الدكتور سمير محمد ايوب
هذا الكتابُ عباءةٌ شعرية جميلة، يتم في ظلالها، رسمُ ملامحَ مشروعٍ ثقافي قي الشعر ككل، مشروعٌ يؤكد على ان الشعر ليتجسد بحاجة لموهبة، لكنَّ الموهبة وحدها لا تصنع شاعرا عظيما، فليس كلُّ من كتب الشعر حتى لو امتلك الوزن والقافية واللغة، يصبح شاعرا مبدعا، فلا بد للشاعر لتمتين علاقته بصناعة الابداع بعيداعن ثقافة التهليل وتلميع الحصى، من مواكبة تقنيات القول المكتوب، والتعمقِ في الظواهر المعقدة للشعر وبناء قصائدِه. ولتكريس بصمةٍ تخص الشاعر، وتتكيف مع روح العصر الذي يعيش فيه، عليه الاجتهاد وارتياد التجريب.
عبر قراءتي المتبصرة لعناقيدِ هذا الكتاب، وجدت ان كاتبَه بشار ابو صلاح، قد اتكأ على حمولته المعرفية الخصبة، باللغة والشعرِ العموديِّ، ليقول:
حين نعجب بقصيدة ما، فنحن في حقيقة الامر نعجب بجمال اللغة فيها. فالشعر هندسة لغوية لها ادواتُها الفنيةُ المُستبدة، التي لا يمكن الاستغناء عنها أبدا. في هذه الهندسة يوظف الشاعر، المعاني والاشكال الفنية في قصائده، للكشف عن جمال اللغة وكنوزها.
أسئلة عديدة كانت ولا تزال محور جدل في عالم الأدب العربي يدور الكثير منها حول مسألة شائكة في الهندسة الشعرية، منها:
لماذا يفرض بعض الشعراء على انفسهم الأوزان الشعرية والقوافي والإيقاعات التي تجعل من كتابة الشعر متعذرة عند كثير من الناس؟
وبالمقابل، لماذا يستغني بعضُهم الاخر عن النظم ويجعلَ قصيدَته كالبناء المتهرب من القوانين الهندسية؟!
من التضليل القول ان الجدل الدائر بين الشعراء ونقاد الادب، يعكس جدلا بين تراث وحداثة، إنه في واقع الأمر، صراعُ ثقافاتٍ وانتماءاتٍ مختلفة، فطالما ان الابداعَ المتقنَ هو ذاك الذي يستغل كلَّ ادواتِه، اذن لماذا يستغني الشاعر العربي عن أدواتِه وأسلحتِه الفنيةِ إن لم يكن متأثرا في حقيقة الأمر بثقافة أجنبية؟!
ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية، حتى تمّ الإعلان عن نهجِ شعر "الحداثة" في العالم العربي، دعا اليه فريق من الشعراء، رأوا أن الشعر العربي في قوالبِه الموسيقيةِ والتعبيرية الكلاسيكية، قد أدّى دورَه وبلَغَ أهدافه، فنزعوا إلى التحرر من القيود التي تفرضها بحورُ الشعر والعروض والقوافي في كتابة القصيدة العربية، بل والابتعادِ قدرَ المستطاعِ عن كلِّ ما يوحي بأنه مستمدٌّ من الشعر الكلاسيكي من ناحية المضمون أيضاً.
لا يُعرفُ على وجه التحديد الشاعر العربي المؤسس لهذا الشعر. وبصرف النظرعن أسبقية نازك الملائكة او السياب او غيرهما في هذا التأسيس؛ لا يختلف اثنان حول أن العراقَ هو الذي شهد ولادةَ قصيدةِ التفعيلة، ثم انتشر هذا الأسلوبُ الشعري الجديدُ في بقيةِ أصقاعِ العالم العربي، وأخذ مظهرا اكثر قوةً من السابق بظهورِ شعراءَ كبارٍ جددٍ كصلاح عبد الصبور وخليل حاوي والقباني والدرويش والفيتوري وغيرهم كثير، لقوا استحسانا كبيرا من قبل المستمعين، جعل من شعرهم منافسا قويا للشعر العمودي.
تبدأ بعضُ إشكاليات شعر الحداثة من المصطلح، إذ أنَّ كثيرا من النقاد لا يميزون بين (شعر التفعيلة) وما بات يسمى بقصيدة النثر، ّإذ يذهب قسمٌ منهم إلى أنَّ الاثنين نمطٌ كتابي واحد، في حين يرى آخرون أنهما جنــسان مختلفان كل الاختلاف، لكل منهما خصائصه.
شعر التفعيلة كاتجاه جديد في الشعر العربي جاء كاختيـــــار ثالث بين الشعر العمودي وما يسمى بقصيدة النثر، شعر له ضوابطه، موزونٌ يخضعُ في نَظمِه، لقوانينِ العروض وبحورِ الشعر، ولكن ليس بنفس الطريقة المألوفة في الشعر العمودي، ففيه يكتفي الشعراء باستعمال تفعيلة واحدة كوحدة اساسية بدل وحدة البيت التي تخضع لها القصيدةُ الكلاسيكيةُ غالبا، بالاضافة الى عدم الالتزام بقافية واحدة في كامل القصيدة. ولمزيد من بلبلة المصطلحات هناك من اطلق على شعر التفعيلة تسمية الشعر الحر، وهو ليس شعراً حراً، وإن كان أكثرَ تحرراً من كثرة القيود التي يقتضيها الشعر الكلاسيكي.
ويرى كثيرون أن ّ(قصيدة النثر) ليست من الشعر في شيء لعدم توفّرها على اي وزن شعري ( الموسيقى )، حتى ان بعضهم قد أسماها بالقصيدة الخرساء.
بعد ان تقرأ هذا الكتاب وتتبصر به قد تقول بمثل ما اقول:
القوانينُ التي تحكم التفعيلاتِ ما تزالُ قائمةً في الشعر العــــربي، فلا يجوز لاي شاعر ان يقوم بتصريفِ أيَّ تفعيلة حسب ما يتراى له ولا يجــــوز له ايضـا أن يخترع تفعيلةً ليست متواجدة عند الفراهيدي، فهو مُلزم بالتقيُّد بالتفعـــــيلات وقوانينِها. وان كان شاعر التفعيلة ليس محكوماً بقافية واحدة كالشعر العمودي.
ان الكثير مما نسمع من شعر يسمي نفسه حرا لا يرتقي إلى مرتبة الشعر لأنه ببساطة يعجز عن إظهار جمالية اللغة وجوانبِها الفنية. وفي نسق كنسق ثقافتنا التي ننهل منها، حيث نرى الموزون شعرا وكل ما عداه نراه نثرا. فإن القارئ المتذوق الحصيف، لا يعدم معيار الحساسية الداخلية في تمييز طبيعة الأثر أو الصدى الذي يتركه النص، ليقول بعدها: هذا شعرٌ أو قريبٌ من الشعر أو لا علاقةً له بالشعر بتاتا.
في حرش اختلاط التسميات والايهامات ، بقي أن نتمنى، ان تتمكن حركةٌ نقدية ما، من تسميةِ ما يقال عنه قصيدةً نثريةً بدلاً من التناقضات الإيهامية التي تنطوي عليها تسميتَه بالشعر المنثور أو القصيدة النثرية. فللشعر ملامح وحقول، وللنثر ملامح وحقول، وإن كان ليس ممتنعاً أن يستفيد أحدُهما من بعض خصائص الآخر.
أما عن بشار ابو صلاح ، مبكرا عرفتُ في حواضن شويكة ، التي تطل على اواسطِ الساحل الفلسطيني المحتل ، ولد بشار فيها وعاش بواكيرَصباه ، وشويكه لمن لا يعلم جغرافيا فلسطينية حدودية جدا، تتمادى يوميا في انهاك قلب وعقل كل حر عربي، حيث كان كل كيان المغتصب فقط على مرمى حجر، هناك في ظل هذا التماس الموجع، عاش بشار حتى صُقِلت طفولتُه وباتَت جامحة تعشق كينونتها واحلامها.
فحرص في سن الشباب، على تحدي ما يتسلط عليها من ظروف المرحلة ، ففي مسعاه للتعالي على صخب تشابكاتها، انحاز لأخطرِ وأنبلِ المسالك، لتظهير ظروفٍ تُقرُّ بكرامة الفلسطيني وتؤسسُ لمصفوفاتِ حقوقه في وطن حر. امتشق بندقيته ومضى مناضلا ميدانيا، في صفوف مقاتلي التحرير، برفقتهم التحم مع عدوه وجها لوجه، حتى سال دمه في اكثر من موقع.
وكما ان كلَّ الطرق النضالية تؤدي ببشار الى فلسطين، فإن الكثير من ايقاعات ما قد عاش ، تجلت في العديد من ابداعاته الادبية، نصوصا شعرية واغان وطنية ونثر ممسرح.
منذ عرفت بشار، عرفت انه ممن يعون الفرق بين تمثل الابداع وانتاجه، فادركت انه اديبٌ مثقف مأهول بالشعر وهواجِسِه، وانه قد وطد علاقاتَه بملكاته وتمرس بادوات الابداع ومهاراتِه، فتيقنت حينها، انه لن يكون سائحا ادبيا ولن يجلس في تجربته الابداعية، على قارعة طرق الادب او حوافها.
قبل ان اختم اقول، ابداعاتٌ ادبيةٌ كثيرةٌ تضخُها دورُ النشر يوميا في ثنايا المشهد العام للثقافة، تنجحُ قلةٌ منها في مهامها الاقتحامية، اظن ان تجربة بشار في هذا الكتاب هي واحدةٌ منها. لذا ونحنُ نودعُها أقول بالفمِ المَليانِ للقراءِ والنقاد في آنٍ، هذا عملٌ ظامئ للتشجيع المثري، فهو يستحقُ الاحتفاء به بما يليق به.
ولأني من المؤمنينَ بأنَّ الكاتبَ الجيدَ مضطرٌّ للتفوقِ على نفسِه دائما، لتحصين حضورة في المشهد العام للإبداع، ولتطوير هذا الحضور، اقولَ لمن نحتفي بباكورة انتاجه الورقي الليلة ، مبارك لك ، ولكن تذكر بأنَّ كثيرا منَ النصوصِ والكتابِ يشيخون، حينَ يعجزونَ عن المراكمةِ، وفقَ مستلزماتِ الإبداع. ولاني بضمير مرتاح ازعمُ ان طموحَكَ للارتقاءِ ما زال بكرا، إعلمْ أخي بشار، أنَّ بعدَ الخُطوةِ الاولى، لا يعودُ التوقفُ الاراديُّ مُباحاً، ولا جائزا ،ولا متاحا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت