رسالة إلى سميح القاسم .. سيّد الحرف والعائلة، في ذكراه

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه.jpg
  • بقلم: المتوكل طه

***

يا صديقي الباقي!

لقد شهدنا لعبةَ المجزرة، ولمسنا التعاقدَ المسعورَ بين ولاياتِ الموت وكيانِ المذابح، وكان الحقُّ مزحةً وحشيّة ، ولم نحظَ بعُزلةٍ مجيدةٍ تُضيءُ زراعتَنا الروحيّة ، لأنّ الهواءَ الملغومَ فخّخته قوىً دموية وفاحشة.

وحُرِمنا من الفرح الذي يرتفع مثل السهام، فكانت بهجتُنا تسقطُ في عقولِ الجثث .. لكنَّ قلوبَنا لم تشعر بالملل .. لأنها تغذّت على النار! فَقُمنا بتخصيبِ مشهدِنا بِجَمالٍ مُقاوِمٍ جديد ، ليبدأ عهدُ الضوءِ السماويّ ..

وهيّأنا لصغارِنا نومَهم النقيَّ ، وأحَطْناهم بالأغاني المُشرقةٍ ، وكان  لا بدّ لهذه المظلمةَ إلا أن تنتهيَ مثلَ الدخان.

 ومَن لا يريد أن يرتعش عليه أن يخطو.

كان المطرُ عرقَنا ، ودمُنا هو القوة ، وألقينا أيدينا من السماءِ إلى الجحيم ، وحاربنا سَحرةَ النومِ ، والفنَّ المُضادَ ، وقلوبَ الموتى، ووقفنا أمامَ الذين يُؤدّون الحِيَلَ ويستمرؤن الشبهَة ، وأولئك الذين يتمتعون بجوّدةِ القسوة .

كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان ، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة ، وتجاوزنا مرايا الغموض ، التي لا يتألّق فيها أحد ، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.

لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة .. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة ، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى ، كان وما زال هو قوّةُ الحقيقية ، مثلما أردنا أن ننامَ ، فقط ، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين .. كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون .. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على عَرْشِها الأبديّ .

باختصار ؛ كانت لدينا قصتُنا القاسيةَ الرائعة ، ويكفي أننا انتصرنا على مَن كان ينظر إلينا كأنه ينظرُ إلى خطيئته.. ذاك أنّ عينيه مليئتان بالسُّمِ والهجران، واستطعنا أن نتخلّص من النهايةِ الخائبةِ بعسلِ التَجذُّرِ والرِباطِ الشريف ، وأن نُعلي صورتَنا النجميّةَ في كرنفالِ الانتفاضةِ الصوفيّة الفذّة ، التي استطاعت أن تجمع البدرَ ليكتمل ويصلحَ للطقوسِ الأخيرة .. لكنهم اعترضوا الأغنيةَ التي صدحت في قلوبنا، وأرادوا من التاريخ أن يسجّل أسماءَهم على صفحاتٍ لم يمهورها بوقودِ أولادِهم أو بخيالِهم غيرِ المتوازن ، لهذا كلِّه كانت هذه الدادائية .

لم يأتِ أحدٌ ليجدَ أرضنا صِفراً، بل لديها إرثٌ باذخٌ ، لم يتخثّر نُعمانُه ، كصحنِ الجمر وبراعمِ الدمِ وسخونةِ البرق .. لم نكن قطيعاً أو هائمين على السّراب ، بل كانت لدينا حضارة تتجلّى فيها النجوم ويتصادى فيها الإبداع الخلّاق الشامل ، فكان الساحل منارة للأُمم ، مثلما كانت جبالنا أعراساً للطيور .

وأنت يا سميح من ساهمَ في تأصيلِ الغضب ، ليصبحَ سبيكةً قادرةً على المواجهةِ ، وحفظِ الذاكرة في المدارِك ، وطردِ المجانية واللاشيء.

***

وكان أنْ شربوا من ينابيع أخرى غير التي انفلقت من الحجارة ، فأصبحوا منكفئين ووثنيين وخارجين ومتعثّرين في الظلام . وظلّوا حفنةً منعوفةً في الأمصار ، لم يجدوا السعادة ولم ينصهروا في السوق الكبيرة ، ولم يتماهوا في أعراس الأمم المبهجة ، بل ظلّوا في تيههم ، يعيدون إنتاج السواطير والقيود على غيرهم من الضحايا ، وما زالت عبوات الدم مرصوفة في مطابخهم ، يشربون منها صباح مساء ! من فيلون الغنوصيّ ، وصولاً إلى سرمد المدافع عن الشيطان ، وحتى آخر قاتلٍ مهووس .

  ولعلي أستنيم لقول البسطاميّ فيهم : ما هؤلاء؟ هَبْهم لي ، أيُّ شئٍ هؤلاء حتى تعذّبهم ؟ إنهم واقفون في الماء عطاشى .

وإنهم لعنة التاريخ ومصاصو دماء الأرض

والمرابون مثل نارٍ نهمة .

***

فجأة، أحسستُ يداي أنهما غُصنا شجرة، وأنني جذع شجرة منزرعة في الأرض .. وبعد قليل، ستضرب جذوري أكثر في عمق الأرض، وستبرعم أصابعي وذراعاي، وستطلق أذناي وأنفي وبُصيلات شعري ورقاً... وسأصبح مثل الجميّزة الراسخة...

وبدأ النسغ يصّاعد من أخمص قدمي، إلى جبيني وأطراف أصابعي.. وأصبح جلد جسدي سميكاً وأكثر صلابة وخشونة... وها هو كتفي ينفتح ليخرُج غصن جديد، وتنشقّ خاصرتي ليطلع منها برعم جديد.. وأطلّت الشمس بعد قليل، فعادت الطيور، وحطّت على القضبان الخضراء المتنامية، فيما بقيت عيناي فتحتين أعلى الجذع، تراقبان هذه الشجرة المُمرعة التي كادت تُغطي بجذوعها معظمَ ساحة الشبح، في السجن الغليظ. كنتَ، وقتها ، يا سميح، أنتَ ووفدٌ من الأدباء والكُتّاب العرب الفلسطينيين، تهتفون خارج أبواب السجن، تطالبون بإطلاق سراحنا ، لنخرج من براثن القيود إلى فضاء الحرية ، وأقسم أني سمعتك وأنت تقول: (سقراط هذا العصر يرفضُ كأسه ، في ساحة التحقيق، والمنفى، أو السجن الذي سيصير يوماً مدرسة.)

***

لماذا تحثّ الخُطى نحو قبرك؟

ما زلتَ في ريعان البراكين..

أقْصِرْ!

فإنّ الذي قد تجرّأ، في رامةِ اللهِ،

لم يتجرّأ، زماناً، عليكْ!

فكيف إذا غبتَ.. آتي سعيداً

وأمشي سريعاً إلى ساعديكْ؟

وكيف سأُنهي النقاشَ الأخيرَ

وكلُّ الشعوب التي هتكوها

أراها تُغنّي على شفتيكْ،

ونارُ الحريق المخيف المُدوّي

يحاول ماءً جرى في يديكْ؟

***

تواضعتَ حتى أتتكَ الطيورُ

وحطّت طويلاً على كتفيكْ.

بسيطاً تجيءُ مع البسطاء

ونعلُ التشاوُفِ في قدميكْ.

وتبكي كطفلٍ أضاعَ الجهاتِ

إذا نَهْنَه الطفلُ في مسمعيكْ.

ونجلسُ في حضرة الليل جَمْعاً

فتحنو الأبوّةُ في راحتيكْ.

وتحكي فتمطر غاباتُ حيفا

دماً يستفيقُ على وجنتيكْ.

وتضحك فيكَ رعودُ الربيع

فيصحو الصباحُ.. ويأتي إليك.

***

وماذا سأقرأ قبل السلامِ

على سيّدِ الحَرْفِ والعائلة؟

وماذا أقصُّ على إخوتي..

 ما رأيتُ!

ولمّا تُعبِّرُ لي رؤيتي الذاهلة..

لقد تركوا لي متاعَ الكلامِ

وراحوا جميعاً إلى الحافلة!

وهذا الذي جاء يبكي عليكَ

تزوّج سِرّاً من القاتِلة،

يقولُ: لعكّا حملتُ الورودَ

وقبَّلتُ أسوارَها الماثلة!

نعم!

قَبّلَ السُورَ فيكَ يهوذا..

وباع النبيَّ إلى القافلة.

***

وكيف تلوم رحيليَ! أقْصِرْ

فقد وصلت أحرُفي الزّاجِلة،

وأتمَمْتُ ما بَلَّغَ الوحيُ فعلاً

وفَرْضَاً تكاملَ بالنافِلة..

وموتي مجازٌ وعمري اعتزازٌ

وما ارتجفتْ أضلعي الناحلة

***

أطلتُ البقاءَ.. وكان لهم

أن يُسكِتوا الطفل في القاطرة

وأن يذبحوا نوستراداموسَ حيّاً

ويرموا بأعظُمهِ الناخرة

وأن يفرموا برتقالي الحزينَ

بسكِّينةِ المذبحِ الفاجِرة

وأن يخلعوا الأرضَ من جذرها

ويلقوا بيافا إلى الهاجرة..

ولكنَّهم خسروا ما أرادوا

وظلَّت لنا القدسُ والناصرة

وغزةُ تصعدُ حدَّ البلوغِ

إلى كشْفِ سِدْرَتِها الساحرة!

وما احتشد القلبُ يوماً وناءَ

وثارت مراجِلهُ الساخرة

إلى أن رأيتُ الخرابَ العميمَ

ببغدادَ والشامِ والساهرة

وكيف شظايا الركامِ الدمارِ

هي الآنَ صورتُنا الخاسرة

غداً تلتقي صُحبةَ الشِّعر في

برزخ الرّحلةِ السابلة؛

معينَ وغسّانَ والناصريَّ

وأيامَ غرْفَتِكَ الآهِلة..

ويكفيك أنّكَ لم تتحوَل

ولم تتبدّل..

وأبقيتَ في بيتك الرّاحلة..

وما قتلوكَ وما صلبوكَ

وتبقى المواليد والقابلة..

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت