منذ الصفحة الأولى في قراءة المجموعة الشعرية "الموت يدخن أيضاً" للشاعرة اللبنانية ماري جليل فإنك واقعٌ لا محالة في شرك الكلمات الناعمة التي تسحبك إلى عالمها، وإن كان بطل الصفحات هو الموت، فإنه ذلك الموت الذي يدهشك أن تطَّلع على مظاهره بين الأحبَّة ومظاهر تجرُّعه للذين ظلُّوا في الحياة الدنيا يقتفون آثار أحبابهم الراحلين.
في الكتاب الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، في 124 صفحة من القطع المتوسط، تُقدِّم ماري جليل صورة ناعمة للموت، وكأنه صديق يدخِّن ويغنِّي ويزور أناسًا حان دورهم بخفَّة وكأنَّه صديق حميم، حتى إنها تتخيَّل زيارته لها في صمت:
الموتُ نفسُهُ الذي رأيتُهُ البارحةَ
يَقطَعُ الطّريقَ على المارّةِ
رأيتُ وجهَهُ اليومَ في
المرآةِ
كان صامِتاً
وكُنتُ أبكي
كان الدّمعُ في عيني
يتساقَطُ في عَينَيهِ
ودُموعُ الموتى ترتجفُ
ولا
تنهمِرُ..
كُنّا نسقُطُ بالموتِ معاً
كما تسقُطُ الأحلامُ عن وُجوهها
جُثتي تَبتَسِمُ
وهو ينتَشي
إنها تقلِّد الموت ثياب الحياة، فكأنها رافقها تلك الليلة متلبسًا روحها وملامحها حتى رأته في المرآة، وإنها لتُزاوِجُ بين كلِّ نقيضين في الحياة، وكأن كل تلك المتناقضات هي وجوه متعدِّدة للحياة والموت، الشروق والغروب، اليقظة والنوم، النهار والليل.
بل إنها تسخر في جرأة واضحة من ذلك القريب البعيد:
لم يَسألني أبي
مَرّةً
عن سِرّ اختِفائي كُلّ ليلةٍ
كانَ يَنظُرُ إلى وجهي المُعَلّقِ
على باب غُرفَتي
وأطرافي التي أَسُدّ بها ثقوبَ الباب
ويَعرِفُ..
أنّني أذهَبُ بالمساءِ إلى تلكَ
الحكاياتِ التي لا يَعرِفُ نهايتها
أحد
أُعيدُ كِتابتها
...
إنها اتَّخذته خليلًا ورفيقًا يؤنس وحدة لياليها، بل ويداعبها ويعانقها كأنه الحبيب المشتهى!
تقول ماري:
يَعرِفُ صَوتُكَ كَيفَ يَذوبُ
في فَمي
كَيفَ يُمعِنُ في فُجورِهِ داخِلَ جَسَدي
يَدُسُّ السُّمَ بلِسانِهِ في أورِدَتي
ويَنتَظِرُ أن تَنامَ يَدُكَ في يَدي
أن تَتَعَثّرَ دَورَتي الدّمَويةُ
بألمٍ خَفي ناعِمٍّ
يُغرِقُني في حَريرِ جَحيمِكَ.
تراها تخاطب حبيبًا حقيقيًّا من لحمٍ ودم، أم أنَّها تخاطب الموت الذي اختطف أحبَّتها وهي واقفة تنتظر دورها متصوِّرة أنه سينزع عنها روحها حين تنام.
وها هي من جديدٍ تصرُّ على أن الموت يتعامل كشخص عادي يشاركنا كل أوقاتنا، فتقول في نص "موت أكثر من عادي":
يَستَيقِظُ المَوتُ مِن نَومِهِ
مِن غياب قَطَراتِ النّدَى
مِن صَمتِ الماءِ
وارتِطامِ الصّوتِ بالصّدَى
يُطِلُّ بكامِلِ شَهوتِهِ
يَعرِفُ طَريقَهُ إلَيّ
يَتَبَعُ رائِحَتي كَعاشِقٍ أَليفٍ
نَسي جَسَدَهُ في سَريرِ نَومِهِ
وجاءَ ليحتَلّ جِسمي
ومرةً أخرى تتخيَّله حبيبًا يداعبها واصلًا بها إلى النشوة، ولكنه في النهاية لا ينتشي ولا يتركها تهدأ، فهو:
يَرتَشِفُ آخِرَ نُقطَةِ ضَوءٍ
بَقيت بَينَ أَسناني
يُغلِقُ بابَ اللَّيلِ على رائِحَةِ عِطرِهِ ويَمضي..
هو يَعرِفُ تماماً كَيفَ
يَخرُجُ مُنتَصِراً مِن نَعشِهِ.
إنه موت ناعم كالحرير، هادئ كليل، مشاكس كطفل، كلما ظننت عزيزي القارئ أنك قد أفقت من صدمة تقذف ماري في وجهك صدمة أخرى، فخذ هذه أيضًا:
امرأةٌ وحيدةٌ ترتدي نـُحولَها
ظِلّها على الجِدارِ يتدلّى
سَقَطَت حنجرتُها
في الدُّموعِ
بعد صرخةٍ أخيرَةٍ
كان مَوتاً كافيا
ليهدأ النّهار.
"الموت يدخِّن أيضًا" ويدخل حلبة المصارعة كلاعب ماهر، ويختطف قلوب العذارى كدون جوان محترف، ويمتطي رؤوس العجائز مسافرًا بأرواحهن إلى المجهول.
ومن الجدير ذكره أن ماري جليل شاعرة لبنانية مقيمة في كندا، درست اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية في بيروت حيث حصلت على البكالوريوس بالإضافة إلى دراستها في معهد الفنون الجميلة.
هاجرت إلى كندا لمتابعة دراستها الجامعية العليا في العلوم الاجتماعية والفلسفة في جامعة كيبيك في مونتريال، بالإضافة إلى دراستها في قسم علم السكسولوجيا.
شاركت بالعديد من الأبحاث الأكاديمية خلال دراستها في جامعة كيبيك عن التبادل الثقافي بين الغرب والشرق، عن الإثنيات وانخراطها في المجتمع الكندي، وكذلك أعطت دروسًا في اللغة الفرنسية للوافدين الجدد ضمن برنامج تعاقدي مع الحكومة الكندية.
عملت أيضًا في الصحافة والإعلام لعدة سنوات مسؤولة عن الصفحة الثقافية في جريدة المستقبل والـAvenir الكندية بلغتيها العربية والفرنسية، حيث نشرت الكثير من القصائد والمقالات عن الشعر والحركة الثقافية للجاليات العربية في كندا، وكذلك نظَّمت وشاركت في العديد من الندوات والنشاطات الثقافية والمهرجانات الأدبية والفنية في عدة ولايات كندية.
صدر لها بالإضافة لهذا الإصدار مجموعة شعرية بعنوان "ملاك على هيئة رصاصة"، 2019 ضمن معرض بيروت الدولي للكتاب عن دار النهضة العربية في بيروت.