وسط الركام، وفي خيمة بالكاد تقي من البرد والحر، تجتمع نساء نازحات في مخيم الشاطئ غرب غزة حول طاولة خشبية متهالكة، يعجنّ ما تبقى من طحين ويصنعن بأيدي مثقلة بالتعب كعك العيد المحشو بالتمر. هذه الأيادي لم تهدأ منذ أن نجت من القصف، وهُجّرت من البيوت، لكنها تصرّ بعناد الكرامة على الحفاظ على طقوس العيد.
رغم أصوات القصف التي لا تهدأ، ورغم الجوع والخوف، تواصل العائلات الفلسطينية إعداد حلوى العيد، كأنها تقول للاحتلال وللموت: لن تنتزعوا فرحتنا، ولن تقتلوا الحياة فينا.
رغم أن الوجوه شاحبة من التعب، لكن ملامح التصميم واضحة. تجلس أم أحمد، نازحة من حي الشجاعية، أمام صينية مليئة بكعك دائري الشكل، مرتبة بعناية على صينية سوداء، تجهزها للفرن البدائي. تقول بصوت هادئ لا يخفي الحنين: "هذه طقوسنا كل عام. رغم الدمار والخوف والجوع، لن نتخلى عن عاداتنا. الكعك بالنسبة لنا ليس رفاهية، هو ذاكرة، وهوية، ودليل أننا ما زلنا على قيد الأمل."
تقليد مقاوم للحرب
تُعد صناعة الكعك والمعمول من أبرز التقاليد الفلسطينية التي تسبق عيد الفطر، وهي عادة توارثتها الأمهات عن الجدات، وتُعدّ طقسًا جماعيًا يحمل روح المشاركة والاحتفال. لكن في غزة هذا العام، بات الكعك فعل مقاومة، ومشهدًا نادرًا من التمسك بالحياة، في ظل حرب مستمرة منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، أوقعت عشرات آلاف الضحايا وأدت إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال.
تقول أم ليان، التي تجلس إلى جانب بناتها الصغيرات وهي تحشو التمر داخل العجينة "نريد لأطفالنا أن يشعروا أن العيد قادم، رغم كل شيء. قد لا نستطيع شراء ملابس جديدة أو تقديم الحلوى كما في السابق، لكن لا يمكن أن نترك هذه الطقوس تموت. هي ما يربطنا بالحياة."
تُظهر الصور نساءً وفتيات وأطفالًا يعملون سويًا: يعجنّ، يحشون، ويزينون الكعك بأدوات يدوية بسيطة، بينما ينتظر البعض دورهم في صف طويل لطهيه على فرن محلي الصنع. المكان يفتقر لأبسط أدوات المطبخ، لكن الدقة والمهارة في التشكيل لا تغيب، ما يعكس تجذر هذا التقليد في الذاكرة الفلسطينية.
عيد تحت الحصار والمجاعة تلوح في الأفق
يأتي عيد الفطر هذا العام في وقت استثنائي، مع استمرار الحصار المشدد على غزة، ومنع دخول المواد الأساسية، بما فيها جميع المواد الأساسية والوقود. ويهدد استمرار إغلاق المعابر بحدوث كارثة إنسانية ومجاعة شاملة، بحسب تحذيرات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية.
تقول أم محمد، وهي أرملة نزحت من بيت لاهيا، بينما تخرج صينية من الفرن "نستخدم آخر ما تبقى لدينا من طحين وسمن. هذه الكمية الصغيرة صنعنا منها ما يكفي لإدخال السرور إلى قلوب أطفالنا. إذا استمر الحصار، لا نعلم كيف يمكن أن نوفر الطعان لاطفالنا الأيام والاسابيع المقبلة في ظل شح شديد في المواد الأساسية وغلاء فاحش في الاسعار."
بينما تُظهر إحدى الصور شابًا يساعد والدته في نقل الصواني إلى الفرن، تُجسد المشاهد روح التعاون داخل العائلة الواحدة، والجهود الجماعية للحفاظ على الطقوس رغم القصف ونقص الموارد. هناك من يجلس في الزاوية يراقب بصمت، ومنهم من يبتسم وهو يزين المعمول بخطوط دقيقة، مستخدمًا أدوات بدائية.
الكعك... نكهة حياة في مواجهة الموت
ليس الكعك مجرد حلوى موسمية في غزة، بل هو شهادة على التمسك بالحياة وسط الموت. صواني الكعك التي تخرج من أفران الخيام في غزة هذا العام، ليست كغيرها. هي محمّلة برسائل إنسانية مؤثرة، تعكس تصميمًا على الصمود، ورفضًا للخضوع للواقع المفروض بالقوة.
تقول أم نضال، وهي تضع آخر قطعة في الصينية بابتسامة باهتة "كل حبة معمول هي حكاية. عن أم نزحت من بيتها، عن طفلة فقدت والدها، عن خيمة صارت بيتًا مؤقتًا. نحاول أن نمنح أنفسنا لحظة راحة وسط هذا الجحيم."
الطقوس تنتصر
في غزة، حيث كل شيء مهدد بالغياب، تواصل العائلات نسج تفاصيل العيد، ولو بخيوط بسيطة. الكعك هنا ليس ترفًا، بل فعل بقاء. وبينما يلوّح شبح المجاعة، وتحاصر الحرب كل منافذ الأمل، يختار الناس الحياة. تصنع النساء الكعك، لا لمجرد الاحتفال، بل لتأكيد وجودهن، ووجود شعب لم ولن يتخلى عن إنسانيته.
إن ما يجري اليوم في غزة، من تمسك بتفاصيل الفرح، يبعث برسالة واضحة للعالم: أن الشعب الفلسطيني، ورغم كل التحديات، لا يزال قادرًا على صناعة الأمل، والاحتفاء بالحياة، ولو بأبسط الإمكانيات.