تقرير أحمد زقوت :- كان المسعف أشرف أبو لبدة من أول الواصلين لنداءات الاستغاثة وآخر المغادرين، ولا يُميّز بين أحد، فكل من نزف أمامه كان شقيقًا في الألم يستحق الحياة، وتحدى القصف والركام، حاملاً روحه على كفه، مدركًا أن الشهادة قد تترصده في أي لحظة، لكنه لم يتراجع، ولم يسعَ وراء لمجدٍ أو شكر، بل أراد فقط أن ينجو الآخرون، وأن يبقى نبض غزة حيًا، ومنح الحياة للجرحى حتى اللحظة التي سُلبت حياته بصمت، ليسقط شهيدًا بجوار حقيبته الطبية، التي شهدت على نُبل مهمته وعمق الفقد.
في 30 آذار/مارس الماضي، ارتقى أشرف أبو لبدة و13 من زملائه من طواقم الهلال الأحمر والدفاع المدني في مجزرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي في رفح أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني، إذ كانوا في طريقهم لتقديم الإسعافات لجرحى نتيجة قصف سابق في 23 آذار/مارس، كما اعتُقل المسعف أسعد النصاصرة، فيما تم انتشال جثامين الشهداء بصعوبة، إذ كانت مطمورة تحت الرمال وبدأ بعضها بالتحلل، حسبما أفادت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
والدة المسعف: وهب روحه لإنقاذ الآخرين ولا يبتسم إلا حين يُنقذ حياة
تقول وئام أبو لبدة، والدة أشرف، لـ "قدس نت"، بصوت يملؤه الألم: "انضم ابني إلى طواقم الهلال الأحمر عام 2021 كمستجيب أول متطوع، دون مقابل مادي، وكان دافعه حب الناس والرغبة في تقديم الخير، رغم إدراكه لخطر الموت في كل مهمة، ومع ذلك، أصرّ على ارتداء بزة الإسعاف، وواصل عمله دون تردد، لا يطلب راحة، ولا يبتسم إلا حين ينقذ روحًا على حافة الموت."
وتضيف أبو لبدة بحزنٍ عميق: "تزوج أشرف قبل أيام من اندلاع الحرب، ورُزق بطفل خلالها، لكنه بالكاد كان يراه، إذ كان منغمسًا في واجبه الإنساني، يقضي معظم وقته في إنقاذ الأرواح، وحتى بعد تدمير منزلنا في رفح، لم يتراجع، بل انتقل معنا وواصل عمله بتفانٍ دون شكوى أو تردد".

هدية عيد الأم: الوداع الأخير من ابن بار
وتستذكر الأم آخر يوم لها مع نجلها المسعف قائلةً: "في 21 مارس الماضي، يوم عيد الأم، جمع أشرف العائلة وقدم لهم الطعام، ثم فاجأني بهدية بسيطة، قطعة شوكولاتة بداخلها 50 شيكلًا، وقال لي: أنتِ تستحقين أكثر، لكنها هدية رمزية، حينها فرحت كثيرًا، ليس لقيمتها، بل لاهتمامه رغم انشغاله ومعاناتنا، كان حنونًا وبارًا، وأنا راضية عنه في الدنيا والآخرة."
وتسرد أبو لبدة تفاصيل القلق والترقب حول مصير نجلها: "في 23 مارس، تلقى أشرف نداء إنقاذ في رفح، وانقطع الاتصال به، انتظرنا 8 أيام نبحث عنه بين الجثث والمستشفيات، حتى جاء اليوم الحزين الذي انتُشلت فيه جثامينهم من تحت الركام، ويؤكد الجميع أنه لم يُستشهد فقط، بل استُدرج وأُعدم بدم بارد، متسائلةً بمرارة: "ما ذنب أشرف؟ لماذا يُقتل من يُنقذ الأرواح؟ أين العالم من هذه الجريمة المصوّرة؟ وكيف يصمت أمام احتلال يحوّل سيارات الإسعاف إلى أهداف، والمسعفين إلى شهداء؟".
ضحى تروي الحكاية: من شهر العسل إلى وداع الشهيد
زوجة أشرف، ضحى عطا الله، تقول في حديث مؤلم لـ "قدس نت" مأساة فقدانه بعد زواجهما في سبتمبر 2023: "في وقت كان من المفترض أن نعيش فيه أيامًا من السعادة، جاءت الحرب القاسية على غزة لتغير كل شيء، ولم تمضِ سوى أيام قليلة على زواجنا حتى اندلعت الحرب، فاختار زوجي التطوع في الهلال الأحمر رغم الظروف الخطيرة، حاملاً حقيبته الطبية ويسابق الموت لإنقاذ الأرواح، رغم القصف المتواصل."
تضيف الزوجة: "خلال فترة خطوبتنا، تلقى دورات في الإسعاف والطوارئ بدافع شغفه بمساعدة الآخرين، لكنه لم يتوقع أن تكون تلك المهارات خط دفاعه الأول في مواجهة الكارثة، وكان دائمًا يشعر بالمسؤولية تجاه شعبه، ويعتبر العمل الإنساني رسالة سامية لا تقل أهمية عن السلاح في وجه الحرب"، مشيرةً إلى أنّه أصيب عدة مرات خلال الحرب دون أن يوقفه ذلك عن مواصلة عمله.
بين الجبهات والقصف: مواقف إنسانية سطرت في الذاكرة رغم الألم
وتحكي عطا الله عن مواقف زوجها أشرف الإنسانية، قائلةً: ""في إحدى الليالي أثناء اجتياح الاحتلال لحي تل السلطان في رفح، تلقى نداءً طارئًا بعد أن أُجبر الآلاف على مغادرة منازلهم، تحركت سيارة الإسعاف الأولى ولكنها استُهدفت من طائرات الاحتلال، فتم استدعاء سيارات الإسناد، وكان من بينها سيارة زوجي"، مضيفةً أنّه "وصل إلى المكان وسط ألسنة النار والدخان والركام، وبدأ فورًا بتقديم الإسعافات للمصابين رغم الخطر الذي يحيط بكل حركة، وبين الجثث المتفحمة، لمح جسدًا متفحمًا بالكامل، فسأل عن هويته، ليُصدم بالإجابة: كان ذلك الجسد لصديقه المقرب، جاره الذي كان يضحك معه قبل ساعات فقط، حينها، انكسر قلبه وتفطر من هول الموقف".
وتروي ضحى عطا الله حادثة أثرت في زوجها، قائلةً: "بعد قصف مبنى مكون من ثلاثة طوابق، انتشل أشرف طفلة ظن الجميع أنها فارقت الحياة، لكن المعجزة كانت أنها ما زالت تتنفس، نقلها سريعًا إلى أقرب نقطة طبية، والدموع تملأ عينيه، وفي حادثة مشابهة، حاول إنعاش طفلة أخرى لكنها فارقت الحياة بين يديه، فبكى ألمًا، كان إنسانًا حنونًا، يشعر بألم الآخرين وكأنهم من أهله."
عندما يصبح الاتصال الأخير رسالة وداع
وتختنق الكلمات في صوت ضحى وهي تستذكر آخر فيديو أرسله أشرف قبل استشهاده، موجّهًا رسالة مؤثرة لطفله وئام الذي لم يتجاوز عامه الأول، إذ ظهر أشرف بملامح متعبة وعينين تغمرهما الشوق، محاولًا رسم ابتسامة وهو يقول: "وئام، أهلًا بابا، إيش أخبارك؟ كيف الماما؟ أوعى تغلبهم، أنا مشتاقلك كثير، إن شاء الله بكرة بروح وبشوفك"، لم يكن يعلم أن هذا الفيديو سيكون رسالة الوداع، وقبلة الحب الأخيرة التي سيحملها ابنه ذكرى خالدة تُروى له يومًا بعد يوم.
أشرف أبو لبدة، مسعف فلسطيني وهب روحه لإنقاذ الآخرين. في 30 مارس استُشهد مع زملائه في مجـ..ـزرة إسرائيلية أثناء تأدية واجبهم الإنساني في #رفح. ودّع عائلته بهدية عيد الأم، وابنه بفيديو لم يكن يعلم أنه الأخير. لم يكن مجرد مسعف، بل إنسان بحجم وطن. pic.twitter.com/VfkfUSKoay
— وكالة قدس نت للأنباء (@qudsnet) April 20, 2025

وعن لحظة فقدان الاتصال بزوجها، تبين عطا الله، أنّه "كان يتصل بي كل بضع ساعات ليطمئنني، حتى في أصعب الظروف، لكن في يوم الحادث، اتصلت به مرارًا دون رد، وهذا ما لم يحدث من قبل، وقتها شعرت برعب وانكسار وكأنني فقدت جزءًا من روحي"، مشيرةً إلى أنّ "ثمانية أيام مرت ثقيلة دون خبر، حتى جاء النبأ الصاعق باستشهاده"، موضحةً أنّ ""الجيش الإسرائيلي أعدم أشرف وزملاءه بدم بارد، رغم ارتدائهم زي الهلال الأحمر وعدم حملهم لأي سلاح، لكن الاحتلال لا يفرّق بين مسعف أو مدني أو طفل، يقتل كل ما هو فلسطيني، والعالم يرى ويسكت، أليس الصمت شراكة في الجريمة؟".
فيديو يدحض رواية الجيش الإسرائيلي
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت تقريرًا يستند إلى مقطع فيديو استُخرج من هاتف أحد المسعفين الذين عُثر عليهم مع 14 من زملائهم في مقبرة جماعية، ويُظهر الاستهداف المباشر لقافلة تضم سيارات إسعاف وشاحنة إطفاء من قبل الجيش الإسرائيلي، رغم وضوح الشارات والأضواء الطارئة، كما يوثّق الفيديو إطلاق نار كثيف استمر نحو خمس دقائق، خلال محاولة المسعفين إنقاذ زملاء لهم، ما يُفنّد مزاعم الاحتلال بعدم استهداف الطواقم الطبية.
الهلال الأحمر: استهداف طواقمنا جريمة حرب واعتداء متعمد
بدوره، يؤكد المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، رائد النمس، أنّ استهداف الاحتلال لثمانية مسعفين في رفح يمثل جريمة حرب وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، موضحاً أنّ الشهداء كانوا يؤدون واجبهم الإنساني بزيهم الرسمي داخل مركبات إسعاف تحمل شارات واضحة، ومع ذلك جرى استهدافهم بدم بارد، في جريمة متعمدة وليست خطأ فرديًا.
ويبيّن النمس في حديثه مع "قدس نت"، أنّ "ما جرى كان كمينًا متعمدًا يرقى لجريمة ضد الإنسانية"، مشدداً أنّ "استشهاد 19 مسعفًا منذ بداية العدوان، بعضهم أثناء إنقاذ الجرحى رغم التنسيق المسبق مع جهات دولية لضمان تحركاتهم".
ويطالب النمس المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لحماية الطواقم الطبية ووقف الجرائم المتواصلة، مشيرًا إلى أن الفيديو الموثق للجريمة يفنّد رواية جيش الاحتلال التي حاول من خلالها تبرير المجزرة، ومؤكداً أنّ الاستهداف كان متعمدًا.
مركز حقوقي يدعو إلى حماية الطواقم الطبية
من جانبه، أفاد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن جريمة إعدام 14 من طواقم الإسعاف والدفاع المدني في رفح تمثل كمينًا مدبرًا وجريمة حرب مكتملة الأركان، ضمن سلسلة من الجرائم الممنهجة ضد الطواقم الطبية، مبيناً أنّ الحرب أسفرت عن استشهاد 27 مسعفًا من الهلال الأحمر و111 من الدفاع المدني، وتدمير أكثر من 140 سيارة إسعاف، في انتهاك واضح لاتفاقية جنيف الرابعة وميثاق روما الأساسي.
وأكد المركز أن منع الفرق الطبية من أداء مهامها يُعتبر انتهاكًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948، داعيًا الدول الأطراف إلى إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي، وتجريم الاعتداءات على الطواقم الطبية وحمايتها، وإنشاء آلية دولية لتوثيق الانتهاكات وفرض عقوبات فورية على الاحتلال، منها حظر توريد السلاح.
رحل رجال الإنسانية، لكنّ بصمتهم خالدة في كل شارع نزف، وكل جريح كُتب له النجاة، وكل ضمير لا يزال حيً، لم يكونوا مجرد مسعفين، بل ملائكة حملوا النور وسط ظلمة الألم، وزرعوا الأمل في قلب الموت.