في الحروب الكبرى لا تُقاس البطولات فقط بما يفعله المقاتلون على الجبهات بل بما يتركه الأطفال من رسائل إنسانية تتجاوز حدود السياسة والميدان.
في قلب المأساة الفلسطينية خرجت قصة الطفلة ريتال كمعجزة صغيرة تذكّرنا أن الحياة قادرة على الانتصار حتى فوق أنقاض الموت.
كاد اسم ريتال أن يُسجَّل في قوائم الشهداء لولا أن القدر شاء غير ذلك بعد ساعات من محاولات انتشال الجثامين من بين الأنقاض وبعد أن أُعلن عن استشهادها تقدم أهلها لتجهيزها للدفن.
غير أن خالها وهو يحملها للمرة الأخيرة شعر بارتجافة خفيفة في جسدها الصغير لحظتها توقف كل شيء من بين الصمت والدمار عاد النفس يتردّد في صدر الطفلة ريتال فعادت معها الدموع ولكن هذه المرة دموع فرح ممزوجة بالذهول.
كانت تلك اللحظة بمثابة ميلاد جديد لريتال وكأنها كتبت بدمها وسقوطها شهادة حياة ثانية.
لم تكن رحلة التعافي سهلة بكل تاكيد فريتال خرجت من تحت الركام وهي تحمل آثار الحرب على جسدها ونفسها معًا لكنها لم تستسلم …. شيئًا فشيئًا وجدت في الألوان والقلم ملاذًا يقيها من صدمة المشهد فبدأت ترسم لم تكن لوحاتها عادية كانت ترسم الشهداء. وجوه غابت عن الحياة لكنها عادت على الورق بخطوط بريئة وألوان زاهية.
هكذا صنعت الطفلة توازنًا استثنائيًا بين الذاكرة والمستقبل من جهة تحمل داخلها صور الفقدان ومن جهة أخرى تخلق عالمًا بديلًا حيث يمكن للشهداء أن يعيشوا مجددًا في لوحاتها.
لم تكن ريتال وحدها في هذه الرحلة فقد كانت امها إلى جوارها باستمرار ولكن كان هناك من يرافقها في رحله الرسم وقفت مدربتها فايزة التي آمنت بأن الفن يمكن أن يكون علاجًا للروح وأن الرسم قد يكون وسيلة للتصالح مع الألم. لم تتركها لحظة كانت تجلس بجانبها وتشجعها تعلمها كيف تحوّل الحزن إلى إبداع وكيف تستحضر القوة في زمن الانكسار.
لم تكن ريتال استثناءً في معاناتها أو في قدرتها على تجاوز الألم بل هي واحدة من عشرات الأطفال الذين انتقلوا من غزة إلى مصر بعد الحرب بعضهم مصاب أو جريح وبعضهم يحمل ندوبًا نفسية عميقة …. هنا جاء دور مركز ميرا لتنمية المهارات الذي تديره السيدة وجدان دياب.
يضع المركز في صميم أهدافه رعاية هؤلاء الأطفال وتقديم برامج نفسية وفنية وتربوية تساعدهم على استعادة توازنهم الداخلي والعودة إلى مسار طفولتهم الطبيعية قدر المستطاع لم يكن الاهتمام بريتال منفصلًا عن هذه الرؤية فهي اليوم جزء من هذه المنظومة الإنسانية التي تحاول أن تعيد للأطفال ما خطفته الحرب منهم.
قصة ريتال تطرح سؤالًا أعمق عن مصير الطفولة الفلسطينية في زمن الحرب فالأطفال ليسوا مجرد ضحايا جانبيين للعدوان بل هم في قلب المأساة ومع ذلك يظهرون في كل مرة كرمز للصمود ريتال تمثل هذا الرمز إذ لم تكتف بالنجاة بل أخذت على عاتقها – من غير وعي كامل ربما – أن تحافظ على ذاكرة الشهداء بطريقتها الخاصة.
الفن هنا ليس ترفًا بل ضرورة الرسم الذي تمارسه ريتال هو شكل من أشكال المقاومة الناعمة مقاومة لا تحتاج إلى سلاح سوى قلم وألوان.
إنها رسالة للعالم بأن الاطفال الفلسطينيين قادرون على تحويل الجراح إلى طاقة حياة.
ولو توقفنا عند تفاصيل قصة ريتال فقط سنرى طفلة نجت من موت محقق لكن إذا قرأناها كرمز فإننا سنجد فيها انعكاسًا لحال فلسطين كلها شعب يعيش على حافة الفناء ثم يفاجئ العالم كل مرة بأنه ينهض من تحت الركام كطائر الفينيق
ريتال هي فلسطين في صورة طفلة يستهدفها الموت لكنها تخرج من بين الدمار لتعلن أن الحياة ما زالت ممكنة وأن الذاكرة لن تموت.
ريتال اليوم لا تزال طفلة لكن قصتها تتجاوز عمرها بكثير هي شاهد حي على قدرة الفلسطينيين على تحويل الدمار إلى حياة والذاكرة إلى فن والحزن إلى ابتسامة.
قد لا تدرك ريتال تمامًا أنها أصبحت رمزًا لكنها حين تجلس لترسم الشهداء فإنها تقدم لنا جميعًا درسًا في الإصرار على الحياة وتذكّرنا أن من ينجو من الموت لا ينجو ليعيش فقط بل ليحمل رسالة….
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت