غزة – مع انطلاق عملية "عربات جدعون 2" التي أعلنتها إسرائيل قبل أيام، دخلت مدينة غزة مرحلة جديدة من المعاناة الإنسانية، حيث تتجدد مشاهد النزوح الجماعي، ويتكرر سيناريو التشريد القسري الذي أصبح قدر عشرات آلاف العائلات الفلسطينية منذ بدء الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لكن الفارق الجوهري هذه المرة، كما يقول النازحون أنفسهم، أن تكاليف التهجير باتت تفوق قدرة حتى الميسورين، فيما يقف الفقراء عاجزين في مواجهة مصير مجهول.
رحلة نزوح لا تنتهي
في حي النصر غرب مدينة غزة، وتحديدًا قرب أبراج الفيروز المطلة على شاطئ البحر ، تعيش عائلة المسنّة "أم هاني" أيامًا من القلق والانتظار. تقول وهي ترفع يديها بالدعاء كلما دوّى انفجار قريب: "والله ما احنا عارفين نجد تفسير للي بسير معنا… بدهاش تخلص هالحرب. وين بدنا نروح وايش بدنا نعمل؟ المواصلات غالية والإيجارات أغلى. كيف بدنا نوفر كل هالمصاري؟"
رحلة "أم هاني" مع النزوح لم تبدأ اليوم. فمنذ بداية الحرب، تركت منزلها في بيت لاهيا شمال القطاع، لتنتقل أولًا إلى دير البلح وسط غزة، ثم إلى رفح جنوبًا، قبل أن تضطر للعودة إلى حي الجرن في جباليا حيث تقيم إحدى بناتها، بعد أن فقدت بيتها بالكامل تحت القصف. ومع انطلاق عملية "عربات جدعون 1" قبل أشهر، وجدت نفسها مجددًا في حي النصر، لتبدأ رحلة نزوح أخرى. واليوم، مع تصاعد العدوان في إطار "عربات جدعون 2"، تستعد العائلة للنزوح مرة أخرى، في دائرة لا تنتهي من التهجير القسري.
أسعار النزوح: تجارة على أنقاض المعاناة
تواجه العائلات الفلسطينية النازحة صعوبات مضاعفة في تأمين وسائل النقل. فبحسب شهادات الأهالي، يطلب سائقو الشاحنات ما يقارب 8 آلاف شيكل لنقل العائلة إلى الجنوب، بينما تتراوح أسعار المركبات المتوسطة بين 6 و7 آلاف شيكل ما يزيد عن 1500دولار أمريكي، أما السيارات الصغيرة فتكلف من 2000 إلى 3000 شيكل ما يصل إلى 1000دولار أمريكي. حتى النزوح الداخلي من شرق أو شمال غزة إلى غربها أو وسطها بات يتطلب ما بين 800 و1000 شيكل ما يزيد عن 500 دولار أمريكي، وهو مبلغ يفوق قدرة غالبية العائلات التي فقدت مصدر رزقها منذ أشهر.
ولا يقتصر الأمر على "جشع" بعض السائقين كما يراه الناس، بل يتصل بارتفاع أسعار الوقود. إذ وصل سعر لتر السولار في غزة إلى 85-90 شيكلًا ما يزد عن 30دولار أمريكي ، بينما يباع لتر البنزين بين 300 و400 شيكل ما يزيد عن 100دولار أمريكي، وهي أرقام قياسية مقارنة بالوضع المعيشي الكارثي.
وفي شوارع مدينة غزة، تبدو الفوارق واضحة بين العائلات؛ فالميسورة منها تستأجر شاحنات ومقطورات لنقل أفرادها وما تيسّر من ممتلكاتها نحو جنوب القطاع، بينما تقف العائلات الفقيرة حائرة على جوانب الطرقات، تجمع ما تستطيع حمله على عربة يجرها حيوان، أو دراجة نارية صغيرة "تكتك"، أو تكتفي ببعض الأغراض المحمولة باليد في حقيبة متواضعة، وربما على كرسي متحرك. ولأن الخيارات تكاد تنعدم، اضطرت أسر كثيرة إلى النزوح سيرًا على الأقدام.
مشاهد من شارع الرشيد: نزوح على الأقدام
على امتداد شارع الرشيد، الطريق الساحلي غرب مدينة غزة، تتشكل صور مروعة تُشبه "أهوال يوم القيامة"، كما يصفها الناجون. عائلات كاملة تسير على الأقدام تحت الشمس الحارقة، تحمل على ظهورها ما استطاعت من متاع. أطفال يُساقون على عربات يجرها حيوان، وشباب يدفعون "تكتك" محمّلًا بالأغراض البسيطة، فيما يلجأ آخرون إلى حمل حقائب صغيرة أو حتى وضع ما تبقى من أغراض المنزل على كراسٍ متحركة.
وتختلط أصوات بكاء الأطفال مع صخب الشاحنات المتعطلة. عند مشهد واحد، انقلبت حمولة شاحنة في وسط الطريق، لتسد الممر أمام مئات النازحين الهاربين من الموت. وعلى مقربة، كانت سيدة تحمل طفلًا رضيعًا بيدها وبعض أواني الطبخ باليد الأخرى، تسير وحيدة نحو المجهول.
النازحون يحملون أثاث بيوتهم معهم
بعض العائلات، التي خبرت الدمار في شمال القطاع وخان يونس ورفح، آثرت حمل أثاث بيوتها معها هذه المرة. يعتقدون أن مصير مدينة غزة لن يكون أفضل، وأن الجيش الإسرائيلي سيحوّلها إلى "أنقاض فوق أنقاض". بعضهم نقل أثاثًا قديمًا لاستخدامه في إشعال النار لإعداد الطعام، فيما حزم آخرون مقتنيات شخصية وثمينة، على أمل أن يجدوا فيها بعض العزاء وسط الخسائر الفادحة.
"أم هاني" مجددًا: رحلة النزوح تحت النار
عند السادسة صباحًا، تواصلت ابنة "أم هاني" الصغرى مع سائق مركبة "بكم" وافق على نقل عائلتها مقابل 2000 شيكل ما يزيد عن 800 دولار أمريكي لكن السائق تردد في القدوم إلى منطقة أبراج الفيروز بسبب القصف المدفعي المكثف. بعد تدخل أحد أقربائه، وافق على المجازفة.
لحظة وصوله، دوّت الانفجارات من جديد، فصرخ السائق: "أنا خاطرت بحياتي عشان أجي أنقلكم… بسرعة حملوا الأغراض بدنا نطلع من هون"، فيما بدت المنطقة شبه خالية من السكان. ومع ذلك، أصرت بعض العائلات على حمل أثاث منازلها حتى اللحظة الأخيرة، رغم إشاعات بأن الجيش الإسرائيلي يخطط للتوغل في المنطقة بعد منتصف الليل.
قال عوني، الذي يستخدم زيت الطهي لتشغيل مركبته لتوفير ثمن المحروقات: "أسرعوا في تحميل الأغراض داخل السيارة لنغادر المنطقة، لا نريد المخاطرة بالبقاء طويلاً هنا."
وردّت عليه أم هاني بقلق: "يكفي، فالجميع من حولنا يحملون ما استطاعوا."
وبدت منطقة أبراج الفيروز شبه خالية من السكان، باستثناء بعض العائلات التي أصرت على حمل ما تيسّر من مقتنيات منازلها، رغم انتشار شائعات عن نية الجيش الإسرائيلي التوغل في المنطقة بعد منتصف الليل.
دفعت "أم هاني" ثمن الرحلة، لتصل أخيرًا إلى دير البلح حيث استأجرت شقة صغيرة بمبلغ يعادل تقريبًا أجرة النقل. لكن هذه الشقة، مثل آلاف المساكن المؤقتة الأخرى، تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
نزوح قسري تحت شمس حارقة
يتطوع عشرات الشبان الفلسطينيين على طرق النزوح، خصوصًا شارع الرشيد وطريق وادي غزة، لتنظيم حركة المركبات ومساعدة العائلات على العبور. لكن حرارة الشمس ونقص المياه والطعام تجعل رحلة النزوح معاناة إضافية، تضاعف من مشقة المشردين الذين يقطعون مسافات طويلة سيرًا على الأقدام.
تقول إحدى النازحات: "مشينا أكثر من 10 كيلومترات، ابني الصغير انهار من التعب، وما لقينا سيارة ترضى تنقلنا إلا بعد انتظار طويل…"
الكلفة الإنسانية والسياسية
لا تقتصر مأساة النزوح على الأبعاد الإنسانية المباشرة، بل تمتد إلى انعكاساتها الاجتماعية والسياسية. فمئات آلاف الفلسطينيين نزحوا أكثر من مرة منذ بدء الحرب، لتتحول حياتهم إلى دوامة من الخوف وعدم الاستقرار. ومع تصاعد القصف في قلب مدينة غزة، يتجه الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة "إفراغ المدينة"، ما يثير مخاوف من تهجير أوسع نطاقًا.
المحللون يرون أن عملية "عربات جدعون 2" ليست مجرد حملة عسكرية، بل هي محاولة لفرض واقع ديمغرافي جديد في القطاع عبر الضغط على المدنيين. وفي المقابل، يحذر حقوقيون من أن هذه الممارسات تمثل جريمة تهجير قسري بموجب القانون الدولي، تضع إسرائيل في مواجهة انتقادات متزايدة من المجتمع الدولي.
انتظار المجهول
في الوقت الذي تتواصل فيه معاناة النازحين، يترقب سكان القطاع عودة المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس بشأن وقف إطلاق النار، والتي تعثرت مؤخرًا بعد محاولة إسرائيل اغتيال وفد تفاوضي للحركة في الدوحة. وبينما يتلاعب الاحتلال بالوقت، يزداد ثمن النزوح على الأرض، حيث لا يجد الفلسطينيون في غزة سوى الانتظار على أمل أن تنتهي هذه الحرب، أو أن تلوح في الأفق تسوية توقف نزيف الدم والدمار.