في خضم موجة متصاعدة من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، تواجه المنطقة احتمال تصعيد إسرائيلي قد يأخذ شكل ضم أجزاء من الضفة الغربية كردة فعل على هذه التحركات الدولية. هذا التهديد يتزامن مع استمرار الحرب على غزة وعملية "عربات جدعون ٢"، التي أفرزت تداعيات شديدة الخطورة بما في ذلك تنفيذ عمليات تهجير قسري واسعة داخل القطاع تمهيدا للتهجير خارجه، ما يفاقم الأزمة الإنسانية ويزيد من توتر الأوضاع الإقليمية.
في ظل هذه الظروف المركبة والمعقدة، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة على لسان مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية "لانا نسيبة" أن "أي محاولة إسرائيلية لضم الضفة الغربية ستكون بمثابة "خط أحمر" بالنسبة للإمارات". هذا الإعلان يطرح سؤالًا عريضًا حول مستقبل العلاقات الثنائية الإماراتية الإسرائيلية واستدامة اتفاقات أبراهام، في الوقت الذي تواصل فيه أبوظبي اتباع سياستها البراغماتية التي توازن بين مصالحها الوطنية، الاستقرار الإقليمي، والضغط الدولي.
بات من الواضح، أن السياسة الخارجية الإماراتية لا تتحرك بردود الأفعال، بل وفق استراتيجية من خمسة مرتكزات:
اولا، البراغماتية المطلقة: المصلحة الوطنية فوق الأيديولوجيا.
ثانيا، الأمن أولًا: كل قرار يمر عبر فلتر الاستقرار.
ثالثا، الاقتصاد أولوية: الشراكات رافعة للنمو.
رابعا، المرونة في التموضع: توزيع العلاقات بين القوى الكبرى.
خامسا، الدبلوماسية الإغاثية: القوة الناعمة لتعزيز النفوذ.
تجسدت هذه الاستراتيجية في ملفات متناقضة: في غزة، دعمت الإمارات الإغاثة الإنسانية عبر قنواتها مع إسرائيل، فيما فتحت قنوات هادئة مع إيران ضمن استراتيجية "تصفير المشاكل"، في ظل انضمامها لاتفاقات "ابراهام".
الحرب على غزة كانت أكثر من مأساة إنسانية. بالنسبة لأبوظبي، كانت إنذارًا استراتيجيًا، فقد كشفت كيف تتحول الأيديولوجيا المتطرفة والقوة العسكرية إلى تهجير ودمار شامل، بما يهدد استقرار المنطقة بأكملها. لذلك ترى الإمارات أن تكرار هذا السيناريو في الضفة الغربية سيكون كارثة إقليمية لا يمكن السكوت عنها.
النموذج الإماراتي المبني على الاستثمار والابتكار والسياحة يقوم على صورة الاستقرار. أي انفجار في الضفة سيضع أبوظبي في مرمى الانتقادات الدولية، وقد يفتح نقاشًا داخليًا حول كلفة التطبيع وفائدته. لذلك، التدخل النشط لمنع الضم ليس مجرد تضامن عربي وحسب، بل حماية مباشرة للنموذج السياسي الإماراتي نفسه.
الإمارات تنظر للصراع في إطار أوسع. أي انفجار فلسطيني-إسرائيلي سيؤثر على أمن البحر الأحمر، وممرات الطاقة، واستقرار الأردن ومصر. وخبرة الإمارات في اليمن وليبيا والسودان علمتها أن الاستثمار في الاستقرار أقل كلفة من دفع ثمن الفوضى.
لذا الدور الإماراتي في غزة لا يقتصر على الإغاثة الإنسانية أو ترتيب "اليوم التالي" والاعمار بعد الحرب، بل يمتد إلى مشروع متكامل يهدف إلى إنهاء الحرب في غزة وسحب فتيل الانفجار في الضفة الغربية، لتبريد الشرق الأوسط.
هذا المسار يخلق أداة ضغط فعّالة تمزج بين الاعتبارات الإقليمية والدولية. فالجهود الإماراتية تعمل على التوازن بين الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، والمطالب الفلسطينية، والضغوط الأمريكية والأوروبية، ما يجعل أبوظبي طرفًا محوريًا في أي صيغة لوقف الحرب وإعادة الاستقرار.
وهذا ما أكدته "نسيبة" في تصريحها، " أن الضم سيؤدي إلى إنهاء رؤية التكامل الإقليمي، وأن مستقبل فلسطين يشكل حجر الزاوية لمستقبل سلمي في الشرق الأوسط. وأضافت أن إنهاء الحرب في غزة لا يحتمل المزيد من التأخير، وأن أي ضم سيقوض بشدة ما تنطوي عليه اتفاقات إبراهيم للسلام".
هذه التصريحات تعكس موقف الإمارات الرسمي وتعزز البراغماتية التي تقودها للحفاظ على الاستقرار الإقليمي.
وعلى المستوى الداخلي الإسرائيلي، يشكّل هذا الدور ضغطًا مضاعفًا على نتنياهو. فمن جهة، صعب عليه الاستغناء عن الانفتاح الإماراتي في ظل عزلة إسرائيل المتزايدة. ومن جهة أخرى، يواجه خطر تقييد مشاريع اليمين الديني التي تهدف لفرض حلول أحادية تلمودية في غزة والضفة. وهكذا، يتحوّل الدور الإماراتي إلى جسر يربط الواقع الإنساني في غزة بالاستراتيجية الإقليمية والسياسة الداخلية الإسرائيلية.
لترجمة هذا "الخط الأحمر" إلى واقع، يمكن للإمارات أن تتبنى استراتيجية ضغط ثلاثية الأبعاد، تهدف إلى تحويل تصريحاتها إلى خطة عمل فعلية تخدم مصالحها بالأساس، ومن ثم استقرار المنطقة والقضية الفلسطينية:-
1. الضغط المباشر على إسرائيل:
عبر استخدام شبكة المصالح المتعددة الطبقات كورقة مساومة. هذا يشمل إبطاء الاستثمارات الاقتصاد، وخفض التمثيل الدبلوماسي، وتقليص التنسيق الاستخباراتي، وتعليق فعاليات التطبيع الثقافي.
2. التأثير عبر واشنطن:
حيث أن انهيار "اتفاقيات أبراهام" يمثل فشلاً لإرث ترامب السياسي في ظل سعيه لنيل جائزة نوبل للسلام. والأهم من ذلك، أن الأمريكي صعب عليه تجاهل المخاوف الإمارات، خاصة بعد حادثة قصف الدوحة التي كشفت هشاشة الحماية الأمريكية للخليج ، الأمر الذي سيجعل حجم الضغوط الأمريكية على أبوظبي محدودًا. فإما أن تحترم واشنطن تحالفاتها، أو أن يقرر ترامب بنفسه إرسال رسالة للخليج بأنهم ليسوا حلفاء حقيقيين، مما يدفعهم لتسريع التوجه شرقًا.
3. قيادة جبهة عربية موحدة:
وهنا لا يُطلب من السعودية أو مصر والأردن أن تتماثل سياساتهم بالكامل مع الإمارات، بل المطلوب هو البناء على تقاطع المصالح الحتمي في هذا الملف الذي يمس أمنهم جميعًا. فموقف السعودية الذي يربط التطبيع بحل القضية الفلسطينية، وتهديد أمن مصر والأردن المباشر، يشكلان أرضية صلبة لموقف عربي منسق تستفيد منه الإمارات ببراغماتية.
التحرك ضد إسرائيل قد يعرّض الإمارات لضغوط اقتصادية من اللوبيات الأمريكية في واشنطن أو لتراجع بعض المشاريع المشتركة. لكن البراغماتية الإماراتية لا تعني تجنب المخاطر، بل إدارتها وتحويلها إلى فرص، عبر ترسيخ صورتها كقوة مسؤولة ووسيط إقليمي لا غنى عنه.
قد يجادل البعض بأن التهديد الإيراني المشترك سيبقي على "صمغ" العلاقات الإماراتية-الإسرائيلية مهما حدث. لكن هذا التحليل يتجاهل المتغيرات الجديدة. فإيران، ما بعد حربها الأخيرة مع إسرائيل وتراجع نفوذها في سوريا، والانفتاح الايراني الخليجي، لم تعد تشكل نفس الدرجة من الخطر المباشر على الإمارات. بل على العكس، لقد خرجت إيران من قائمة الضغوطات الأمريكية-الإسرائيلية الملحة على الخليج، مما يمنح أبوظبي مساحة أكبر للمناورة وحرية أكبر في اتخاذ مواقف مستقلة تجاه إسرائيل دون الخوف من "البعبع" الإيراني.
هنا يكمن التحدي الحقيقي. إن التحرك الإماراتي ليس خاليًا من المخاطر، لكن البراغماتية لا تعني تجنب المخاطر، بل إدارتها. إن قيادة هذا الموقف، حتى لو لم يحقق كل أهدافه، سيرسخ صورة الإمارات كقوة مسؤولة ومستقلة، وكوسيط إقليمي لا غنى عنه. إنها فرصة تاريخية لأبوظبي لتثبت أن براغماتيتها قد نضجت لترتقي إلى مستوى اللحظة التاريخية، وأن حماية مصالحها يمر حتمًا عبر حماية استقرار المنطقة بأكملها.
في نهاية المطاف، يبقى نجاح هذه الاستراتيجية مرهونًا باختبار الواقع. فهل ستكون أوراق الضغط الإماراتية، حتى لو كانت موحدة مع جبهة عربية، كافية لردع حكومة إسرائيلية يمينية قد يكون دافعها الأيديولوجي والبقاء السياسي أثقل في ميزانها من المصالح البراغماتية؟ وهل سيختار نتنياهو، في لحظة الحقيقة، الحفاظ على ائتلافه الحكومي أم الحفاظ على العلاقات مع أبوظبي؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت