بقلم المخرج /فايق جرادة
انتهت الحرب ولم تُنته الحكاية
حكاية مدينةٍ ما زالت تنبض رغم الركام حكاية إنسانٍ ما زال يروي تلك الحكاية التي هو جزء من تفاصيلها بين الأنقاض و الركام ، وحكاية شهيد و شاهد بعين الكاميرا وثق الجريمة فصارت ملء العين و القلب ، تصرخ في عقله الباطن كلما رجعت به الذاكرة لما كان، لم تُغلق عين الكاميرا التي ظلت شاخصة من هول ما رأت ، منذ أول صرخة وحتى آخر دخان .
انتهت الحرب ، لكن الكاميرا ما زالت ريكورد (تسجّل ) وتوثّق وتصرّ على أن تقول ما زلنا هنا.
في زمنٍ تُغتال فيه الحقيقة مثلما يُغتال الإنسان وتُحاصر الصورة كما يُحاصر الجسد تصبح الكاميرا سلاحًا لا يقل قوة عن البندقية .
لم تعد العدسة مجرّد أداة لنقل الخبر بل أصبحت خط الدفاع الأخير عن الذاكرة الفلسطينية ، ففي حرب الإبادة التي عاشتها غزة ، كان في ذلك الجزء من تفاصيلها ، رجل مثل قوة الصحفي المحلي المهني الوطني صاحب القصة و أحد أبطالها، فوقف ليوثق أدقها ، و تَحوّل على يديه الفيلم الوثائقي والصورة إلى شهادة حية على الجريمة وإلى فعل مقاومة لا تقل عن شجاعة الشجعان ، بوقوفه ماسكا تلك الكاميرا بيده ،و هي جزء من جسده فلا يفترقان ، لتصبح عينه و عينها في رأس واحد ، تقفان في وجه القصف وتتحملان الألم والوجع معا .
غزة اليوم تُرى بعدساتٍ محلية محاصرة حملت الأمانة في أصعب الأوقات ، لتصير المعركة الأوسع بعد ذلك ، معركة السرد والرواية ، وهذا يتطلب دخول الصحفيين الأجانب إلى القطاع لا ترفًا مهنيًا ، بل ضرورة إنسانية وأخلاقية لتحمل تلك الأمانة الي نأت عن حملها الجبال و ما حملها إلا صاحب الحق و الحقيقة ، ابن الوجع و الحالة ، فليكمل أجانب الصحفيين إيصال الرواية انصافا لمن أوصلها إليهم ، نحو التدويل لكشف ما كان من زيف رواية لا يضحضها إلا من يؤمن بأن الحق كان و سيظل معنا ، فالعالم بحاجة لأن يرى غزة من كل الزوايا — لا كما يريد الاحتلال أن يراها بل كما هي مدينة الحياة تحت الرماد والناس الذين يواصلون العيش و يحبون الحياة ، رغم أن الموت يحيط بكل تفصيلة من تفاصيل يومهم.
إننا ندعو كل الصحفيين من فلسطين والعالم و كل الزملاء في المهنة إلى حمل كاميراتهم والدخول إلى غزة لتوثيق الحقيقة كما هي ورؤية حجم الدمار والمأساة والصلابة التي يعيشها أهل المدينة التي تُقاتل لتبقى حية — مدينة الحياة غزة رغم الابادة
هذه دعوة للتوثيق دعوة للحضور دعوة لفتح العدسات على أوسعها كي لا يبقى العالم أسير رواية الاحتلال وأكاذيبه.
الإعلام الغربي الذي طالما تبنّى الرواية الإسرائيلية يحاول مجددًا تبرير المجازر ، لكن يبقى الفيلم الوثائقي الفلسطيني والصور التي يلتقطها الصحفيون تحت القصف فاضحا لذلك التواطؤ، فكل لقطة من غزة هي وثيقة تاريخية تُدين الاحتلال وتكسر صمته وكل مشهد يحمل دليلاً على أن الإبادة ليست رواية متخيَّلة بل حقيقة مرئية يمكن للعالم أن يراها بلا وسطاء ولا مؤثرات.
لم يعد هدف الكاميرا الفلسطينية حصد الجوائز ولا اقتحام أروقة المهرجانات ، بل النجاة بالحقيقة ، التي تُوثّق الوداع والتهجير والدمار والصلابة وتمنح الضحايا أسماءًا ووجوهًا سيحفظ تفاصيلها قاتلها ، لا أن تصيرا أرقامًا في نشرات الأخبار وحسب .
وفي كل مرة تُرفع فيها الكاميرا وسط الركام تولد ذاكرة جديدة وتُكتب صفحة إضافية من التاريخ الفلسطيني بالضوء والدم معًا.
وجود الصحفيين الأجانب اليوم بات ضرورة حتمية ليس لتجميل المأساة بل لكسر الجدار الحديدي الذي تبنيه الدعاية الصهيونية حول الحقيقة فحين يدخل المصوّر الأجنبي ليشهد ما يجري بنفسه يصبح الاحتلال مكشوفًا عاريا أمام الرأي العام العالمي ويصعب عندها تزييف الحقائق أو طمسها كما كان يحدث في الحروب السابقة.
إن الصورة القادمة من غزة يجب أن تكون متعددة الزوايا من الفلسطيني الذي يعيش المأساة ومن الصحفي الأجنبي الذي ينقلها بلسان العالم و باللغة التي يفهمها . فكلاهما يشتركان في مهمة واحدة — فضح الاحتلال وحماية الحقيقة.
الفيلم الوثائقي والصورة بشكل عام في زمن الإبادة لم يعد نوعًا فنيًا فحسب بل تحوّل إلى وثيقة سياسية وقانونية وأخلاقية ، و المخرج والمصوّر والناجي جميعهم صاروا شهودًا على الجريمة وضحايا لها في الوقت نفسه.
إنها مقاومة بالكاميرا لا تعرف الحياد لأنها تقف إلى جانب الإنسان وإلى جانب العدالة فكل مشهد يُصوَّر اليوم في غزة قد يُستخدم غدًا في محاكم دولية أو في أرشيفٍ يحكي للأجيال القادمة كيف حاول الاحتلال محو المكان والذاكرة وكيف قاوم الفلسطيني بعدسته كما قاوم بصموده.
لهذا فإن التوثيق لم يعد خيارًا — بل واجبًا وطنيًا وإنسانيًا.
مهما سقطت القنابل ومهما تهاوت الأبراج تبقى الصورة حية لا تقتلها السنين و لا يستثتيها التاريخ، فهي الذاكرة التي لا تُنسى والضمير الذي لا يصمت والشاهد الذي لا يمكن اغتياله فالكاميرا الفلسطينية التي وثّقت كل لحظة وجع والم أصبحت اليوم الحارس الأخير للحقيقة إنها السلاح الذي لا يُفرّغ من رصاصه والعيْن التي لا تنام والصوت الذي لا يُخرَس.
انتهت الحرب ، لربما هذا صحيح ، لكن هناك حرب بعد الحرب قد بدأت بشكل آخر ، وهنا لم تنتهي الحكاية… فما زالت الكاميرا تسجّل.
ستظل الصورة الفلسطينية تقاوم تحكي وتوثّق لتؤكد أن الشعوب التي تصوّر آلامها قادرة على كتابة مستقبلها أيضًا ، والتاريخ يكتبه الأقوياء و المنتصرون ، و نحن لسنا ضعفاءا و لم ننهزم ... مازلنا أحياءا و سنحاسبكم
اشحنوا كاميراتكم لمحاكمة الاحتلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت