تقول «ورقة حقائق القطاع الزراعي» إن الحرب المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ألقت بظلالٍ ثقيلة على الزراعة في غزة، وهي ركيزة الأمن الغذائي، إذ أدّت القيود الإسرائيلية على إدخال مستلزمات الإنتاج إلى قفزةٍ في تكاليف الزراعة انعكست مباشرةً على أسعار الخضار الأساسية وقدرة الأسر على تلبية احتياجاتها. وتأتي الورقة استجابةً لهذه التطوّرات لتُحلّل واقع أسعار «سلّة الخضار» وتأثير منع المدخلات وارتفاع كلفتها على المزارعين والمستهلكين، وصولاً إلى توصياتٍ عملية قابلة للتبنّي على المدى القصير والمتوسط والطويل.
وفي أسواق غزة التي اعتادت موسمياً على وفرة الطماطم والخيار والبطاطا والبصل والكوسا والباذنجان، صار السؤال اليومي للأسر أقل بساطة: لماذا بات شراء الخضار يُستنزف الميزانية، ولماذا تتبدّل الأسعار من يومٍ إلى آخر؟ يجيب فريقٌ من الخبراء والمهندسين الزراعيين في «ورقة حقائق القطاع الزراعي» بأن الجذر ليس في الطلب، بل في «صدمة عرض» متواصلة قادمة من منع دخول مستلزمات الإنتاج الزراعي أو وصولها متأخّرة وبكميات لا يُعوّل عليها، ما يرفع الكلفة الحدّية لكل كيلوجرام ويجعل سلة الخضار أغلى وأقل استقراراً على نحوٍ غير مسبوق.
تُظهر الورقة أنّ حلقات الإنتاج في غزة—من البذرة حتى نقطة البيع—تعمل اليوم تحت الخطر: مدخلات أساسية لا تدخل بانتظام، وأصول إنتاج (بيوتٌ محمية، شبكات ريّ، مضخّات، تبريد) تضرّرت أو تفتقر إلى قطع الغيار، وكُلف طاقة ونقل تضغط على المزارع والتاجر والمستهلك معاً. هذه البيئة تجعل أي خللٍ صغير في التدفق عبر المعابر أو الوقود يتحوّل سريعاً إلى قفزةٍ كبيرة في السعر. ويؤكد الفريق الفني أن «سوق الخضار صارت رقيقة»، أي محدودة الكميات والسيولة، بما يُضاعف أثر أي صدمة على الأسعار النهائية.
مدخلات لا تدخل… أو تدخل بكلفة أعلى
يُجمِل مهندسون زراعيون شاركوا في إعداد الورقة قائمة المدخلات التي باتت «مشروطة الدخول»: البذور والشتلات المعتمدة، الأسمدة المركّبة (NPK) والعضوية، الأغطية البلاستيكية للبيوت المحمية، شبكات الريّ بالتنقيط وملحقاتها، مواد الوقاية النباتية وقطع غيار المضخّات والمرشّات. وعندما تُحظر هذه المواد أو تتأخر، تتخذ المزارع قرارات اضطرارية: إلغاء دورة زراعية كاملة، أو استخدام بدائل أدنى جودة وأعلى كلفة، ما يعني محصولاً أقل وسعراً أعلى في الطرف الآخر. ويضيف الفريق: كل تأخير في هذه المدخلات يخلق «علاوة مخاطرة» تُحمّل على السعر النهائي للمستهلك.
حيث تتراكم الكلفة: من التربة حتى نقطة البيع
حسب الورقة، يمكن تفكيك مسار الكُلف التي تصنع السعر على النحو الآتي:
1) التسميد والبذور (مربع الخصوبة):
غياب الأسمدة المناسبة أو تأخرها يُضعف خصوبة التربة ويُقلّل جودة الغلة، ويفرض لاحقاً جرعات تعويضية أغلى ثمناً. كما أن البذور غير المعتمدة أو غير الملائمة للبيئة المحلية ترفع نسب الفشل الحقلي وتزيد الفواقد. النتيجة: كيلوجرام أغلى قبل أن يغادر الحقل.
2) البيوت المحمية (مربّع الحماية):
تلف الأغطية البلاستيكية أو تعذّر استبدالها يجعل المحصول مكشوفاً للآفات والتذبذب المناخي، ويقصّر الموسم ويزيد الفواقد. كل يوم تأخير في التغطية «يُحرق» جزءاً من الإنتاجية، خصوصاً للطماطم والخيار والكوسا—وهي أعمدة سلة الخضار في غزة.
3) المياه والطاقة (مربّع التشغيل):
شح الوقود وارتفاع أسعاره يرفع كلفة تشغيل الآبار والريّ والتبريد والنقل. وأي اضطراب في برنامج الريّ للمحاصيل الحسّاسة ينعكس فوراً في الكمية والجودة، فتزداد كلفة الكيلوغرام المنتج حتى قبل نقله إلى السوق. هذه الكُلف التشغيلية «غير المرئية» للمستهلك جزءٌ حاسم من تفسير السعر النهائي.
4) النقل وسلاسل التبريد (مربّع ما بعد الحصاد):
في ظل انقطاع الكهرباء وضعف سعات التبريد، ترتفع الفواقد بعد الحصاد وترتفع معها الكلفة المحمّلة على الكميات السليمة. ويزيد تعذّر الحركة على الطرق والانتظار على الحواجز والمعابر من زمن الوصول وتكلفته، فتظهر الندرة سريعاً في رفوف التجّار ثم عند بسطات الخضار.
لماذا ترتفع «سلة الخضار» بهذا الشكل؟
تُقرأ القفزات الحادة في الأسعار اليوم كنتاجٍ مباشر لهذه الحلقات الأربع مجتمعة. يقول خبراء الورقة إن التضييق على المدخلات يضغط على المعروض المحلي، فيما تضغط كُلف الطاقة والنقل على سعر الوحدة المنتَجة، ومع «رقة السوق» يتحوّل كل تعطّلٍ في الدخول أو الوقود إلى تغيّرٍ يومي في الأسعار. لذا قد نرى هبوطاتٍ مؤقتة عند أي انفراجة لوجستية أو شحنة مدخلات عابرة، لكن الاتجاه العام يظل صعودياً طالما أن أسباب الغلاء البنيوية قائمة.
ويُضيف مهندسون زراعيون ضمن الفريق أنّ القرارات الحقلية لم تعد تُتخذ وفق الجداول الزراعية المثلى، بل وفق «يقين الوصول»: هل ستدخل البذور في موعدها؟ هل يتوافر البلاستيك والريّ وقطع الغيار؟ هذه الأسئلة تُؤخّر الزراعة، تُقصّر المواسم، وتدفع بعض المنتجين إلى أصناف أقل مخاطرة حتى لو كانت أدنى ربحية—وهو ما يعيد تشكيل المعروض والنمط الموسمي لأسعار الخضار برمّته.
أثرٌ مباشر على سلوك الشراء والتغذية
ترصد الورقة تحوّلاً دفاعياً في سلوك الاستهلاك: أسرٌ تقلّل الكميات، تستبدل الطازج بما هو أطول حفظاً عندما يتعذّر التخزين البارد، وتُقلّص تنوّع الخضار في السلة الشهرية. ويشير الخبراء إلى أن هذه السلوكيات—إن استمرّت—تنعكس على التنوّع الغذائي وترفع مخاطر سوء التغذية لدى الفئات الأضعف، خصوصاً مع ارتفاع لا يقين السعر وتذبذب التوفر. إنّه أثرٌ لا تلتقطه لوحات الأسعار وحدها، بل يرصده المهندسون والمرشدون الزراعيون على تماسّ مع المجتمع المنتج والمستهلك.
المقاربة الفنية: السعر «مرآة» لحالة الإنتاج
تذكّر «ورقة حقائق القطاع الزراعي» بأن الأسعار نتيجة لحالة الإنتاج وليست سبباً لها. فإذا بقيت سلاسل الإمداد للمدخلات (بذور، أسمدة، بلاستيك، شبكات ريّ، مبيدات) مقطّعة، وإذا ظلّت الأصول (بيوت محمية/آبار/مضخات) غير مُعادة التأهيل، فلن تُجدي نفعاً أي انفراجات ظرفية في تدفق السلع الجاهزة. فكل كيلوغرام يصل إلى السوق يكون قد تحمّل تكاليف رفضٍ وتأخيرٍ وبدائل ورديئة ونقلٍ مكلف—ومن ثم يبيع التاجر بسعرٍ «يحمي الهامش» ليُكمل الدورة. هكذا يُعاد إنتاج الغلاء.
ما الذي يقترحه الخبراء لتخفيف الضغط السعري؟
يطرح الفريق الفني سلسلة تدخلات متزامنة—لا بدائل متنافسة—كي يظهر أثرٌ ملموس على أسعار «سلة الخضار»:
فتحٌ منظّم لمدخلات الإنتاج الأساسية: إدخال حِزم البذور المعتمدة، أسمدة NPK والسماد العضوي، الأغطية البلاستيكية للبيوت المحمية، شبكات الريّ وقطع غيارها، ومواد الوقاية النباتية عبر قنوات إنسانية وتجارية بخطة قابلة للتنبؤ، مع نظام تتبّع وشفافية للكميات والمواعيد. يرى المهندسون أن انتظام هذه الحلقة شرطٌ لازم لتقليل علاوات المخاطر في السعر النهائي.
طاقة ومياه للإنتاج: تخصيص سعات وقود لتشغيل الآبار والتبريد والنقل، وإتاحة قطع غيار المضخّات والمرشّات، لأن كل ساعة تشغيل تضيف نقطة فائدة في الغلّة وتقتطع نقطة كلفة من الكيلوغرام. المؤشرات التي يسوقها الفريق تُظهر أن كُلف التشغيل صارت وزناً ترجيحياً في سعر الخضار الطازجة.
ترميم الأصول الزراعية: إعادة تأهيل البيوت المحمية وشبكات الريّ والآبار بتمويلٍ طارئ، فالتوازن السعري لا يستقر من دون قدرة إنتاجية محلية قادرة على تزويد السوق بكمياتٍ كافية على مدار الموسم.
سلاسل التبريد واللوجستيات: دعم مراكز فرز وتعبئة قريبة من الحقول وتوسيع التبريد المتاح وتقليل زمن الانتظار على نقاط العبور؛ كل دقيقة توفير في الطريق تعني فاقداً أقل، وكل فاقدٍ أقل هو سعرٌ أدنى للمستهلك.
معلومات سوقية قابلة للقرار: نشر نشرات سعرية ومخزونية أسبوعية في نقاط البيع والزراعة، تربط المزارعين بالتجّار والمستهلكين وتحذّر مبكّراً من اختناقات الإمداد لمنع المضاربة والقفزات المفتعلة.
أسئلة الحقل لا أسئلة السوق
تشدّد الورقة على أن المعالجة ينبغي أن تُجيب عن أسئلة الحقل: هل يحصل المزارع على البذور والأسمدة والأغطية في موعدها؟ هل تعمل شبكات الريّ والمضخّات وتتوفر قطع غيارها؟ هل يمكن نقل المحصول بسرعة وبكلفة معقولة مع تبريد كافٍ؟ إذا كانت إجابة هذه الأسئلة «نعم»، فإن السوق سيتكفّل بالجزء الأكبر من ضبط الأسعار. أمّا إذا بقيت الإجابات «لا»، فكل هبوطٍ عابر في الأسعار سيكون موسمياً ومؤقتاً تحرّكه دفعاتٌ ظرفية لا صلابةٌ إنتاجية. وهذا بالضبط ما يرصده المهندسون الزراعيون المشرفون على توصيات الورقة.
استقرار السعر يبدأ من الحقل
يخلُص الخبراء إلى أن سلة الخضار في غزة ستظل عُرضةً لتقلباتٍ حادّة ما لم يُعالَج سبب الغلاء البنيوي: اختناق مدخلات الإنتاج وارتفاع كلفة التشغيل وتعطّل الأصول وسلاسل التبريد والنقل. وعليه، فإن أي انفراجٍ مؤقت في الأسعار لن يصمد إن لم تُفتح قنوات إدخال مستدامة وشفافة للمدخلات، ويُعاد تأهيل البنية الإنتاجية، ويُمنح المزارع القدرة على التخطيط لدورته الزراعية من دون مقامرة. هذا ما تؤكده «ورقة حقائق القطاع الزراعي»: السعر مرآة الإنتاج؛ فإذا صلُحت المرآة في الحقل، استقام الوجه في السوق
