بعد عامين من الإبادة الجماعية: كبار السن في غزة بين نزيفٍ صامت وانهيار منظومة الرعاية

كبار السن في غزة.jpg

بين أنقاض البيوت المهدّمة وطوابير الصيدليات الخاوية، يقف كبار السن في غزة في مقدّمة الفئات الأكثر هشاشة بعد عامين من الحرب والإبادة الجماعية. فهم لا يواجهون فقط الخطر المباشر للقصف والخروقات الأمنية، بل يواجهون أيضًا عالماً من الحرمان الصحي والغذائي والخدماتي يعصف بحقوقهم الأساسية: الدواء، والعلاج، والسكن اللائق، والماء والغذاء، وحرية الحركة للوصول إلى الرعاية. ومع استمرار القيود على المساعدات وإغلاق مسارات العلاج خارج القطاع أو تعقيدها، تتحول الشيخوخة في غزة إلى امتحان يومي للبقاء على قيد الحياة. هذا التقرير يرصد واقع كبار السن بالأرقام والشهادات، ويُبرز إطار الحماية في القانون الدولي والالتزامات الواقعة على جميع الأطراف.

حجم الشريحة واتجاهات ديموغرافية

تشير المعطيات المتاحة إلى أن نسبة من هم في سنّ 60 عامًا فأكثر في دولة فلسطين بلغت نحو 5.6%، مع تباينٍ بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إذ تُقدَّر النسبة في غزة بحوالي 5% حتى نهاية 2023. وتُقدّر وزارة التنمية الاجتماعية أعداد كبار السن في غزة بنحو 122 ألفًا، من إجمالي سكانٍ يناهز 2.44 مليون نسمة. هذه النسب الصغيرة ظاهريًا تتحول في زمن الحرب إلى كتلة واسعة من الاحتياجات المركّبة: أمراض مزمنة، إعاقات، قيود حركة، وحاجة متزايدة للدعم الأسري والخدمات المجتمعية.

الخسائر البشرية والسياق العام للعنف

رغم أن قواعد البيانات التفصيلية الخاصة بضحايا كبار السن نادرة وشحيحة، فإن المؤشرات العامة تبقى بالغة الدلالة: تقديرات رصينة تشير إلى أن نحو 83% من إجمالي ضحايا الحرب في غزة هم من المدنيين—وهي بنية ضحايا تغلب فيها الفئات الهشة، وبينها كبار السن، بصورة منهجية. كما أن حجم الإصابات والمفقودين والقيود الأمنية يُصعّب حصر الضحايا بدقة أو إتمام إجراءات التعرّف والدفن، في ظل استمرار القيود على الحركة والإنقاذ والبحث تحت الأنقاض.

انهيار سلسلة الدواء والرعاية: أثر مباشر على الشيخوخة

تُجمع الشهادات الميدانية والتقارير الصحية على أن المنظومة الدوائية—وخاصة أدوية الأمراض المزمنة—تعرضت لانقطاع واسع وتدهور متصاعد خلال 2025. سجّلت وزارة الصحة خلال أغسطس 2025 ارتفاعًا حادًّا في نسب نفاد الأصناف الأساسية ونواقص المعدات واللوازم، إذ بلغت نسب نفاد أصناف بالغة الأهمية في مستويات الرعاية المختلفة ما بين 54% و66%، مع مستويات أعلى في الطوارئ والأمراض المزمنة، وهو ما يعني عمليًا أن مريض السكري أو القلب أو ضغط الدم—وهي أمراض شائعة في الشيخوخة—قد لا يجد الدواء أو الفحوص الأساسية على نحوٍ منتظم. هذا الواقع يُفاقِم معدلات الاختلاطات الحادة والوفاة المبكرة بين كبار السن.

ويؤكد مختصون في الصيدلة بوزارة الصحة أن الإغلاقات المتكررة وتعطّل سلاسل الإمداد منذ ربيع 2025 انعكس مباشرة على قدرة المرافق على تقديم الخدمة، وتحديدًا في الرعاية الأولية التي يفترض أن تستوعب عبء الأمراض المزمنة عند كبار السن. النتيجة: تنقّل مرهق بين مراكز متباعدة بحثًا عن وصفة بديلة، أو تقليص الجرعات، أو التوقف القسري عن العلاج.

الإخلاءات القسرية وتفكيك الروابط الأسرية

لا تُقاس معاناة كبار السن فقط بمدى توافر الدواء؛ فالإخلاءات المتكررة، وتبدّل أماكن النزوح، وضبابية الوصول للعلاج خارج القطاع، كلها عوامل تُقوِّض “استمرارية الرعاية”—وهي عنصر حاسم لكبار السن. إن انتقال المُسن بين ثلاثة ملاجئ في شهر واحد يعني إعادة تسجيل طبية متكررة، وفقدان ملفات، وانقطاع متابعة الضغط والسكري والقلب، وتبدد شبكة الإسناد العائلية. كما أن القيود على تحويلات العلاج ونقص حُزم المساعدات الشتوية والغذائية تعني شتاءً قاسيًا دون تدفئة ومياه نظيفة وغذاء ملائم لمرضى الشيخوخة.

شهادات من الميدان: أصوات تُلامس تفاصيل الحياة اليومية

يروي رجل مسنّ محمد البراوي (74 عامًا) أنّه بات يعود “بيدين فارغتين” من جولات البحث عن الأدوية الأساسية، وأنه يُضطر لتجزئة الجرعات أو استبدالها بما يتوفر، وسط ارتفاع جنوني للأسعار، وغياب بدائل فعّالة، وتعقيدات لوجستية للوصول إلى المراكز القليلة التي ما زالت تعمل. شهادته تُلخّص معادلة قاسية: مضاعفات تتفاقم، وجسدٌ يشيخ أسرع مما ينبغي.

أمّا أبو رزق (87 عامًا)، فيتحدث عن “شيخوخة قسرية” تُثقِلها الأعباء: ندرة وسائل النقل، انقطاع الأدوات المُعِينة، وأولويات جديدة للأسرة تُهمّش احتياجاته—من الفواكه الطازجة وحتى الفحوص الدورية—في ظل دخل لا يكاد يكفي للضروريات وملاجئ ازدادت ازدحامًا بعد موجات نزوح متتالية. إنّها تفاصيل تبدو صغيرة منفردة، لكنها في مجموعها تصنع حرمانًا شاملًا.

منظومة الخدمات الأساسية… حين تصير الرفاهية هي “الحد الأدنى

يتعدى الضغطُ حدود العيادات والصيدليات إلى البنية الأساسية للخدمة: مياه وصرف صحي، كهرباء، وسائل نقل، وأمن غذائي. كبار السن—خصوصًا ذوي الإعاقات—يدفعون التكلفة الأولى لانقطاع الكهرباء أو توقف المصاعد أو تعطل المولدات في المراكز الطبية، ولطوابير الخبز والمياه، ولغياب بيئات سكنية آمنة صحيًا. وتُظهر الإفادات أن نحو 70% من فئات الخدمات الصحية والتمريضية الميدانية داخل غزة شهدت تعثرًا لوجستيًا ملحوظًا بفعل القيود الأمنية، ما ضاعف تعقيد الوصول إلى الخدمة.

التماسك الأسري آخر خطوط الدفاع… لكنه ينهك الجميع

في ظل تقلّص مظلة الدولة والمؤسسات، تتحول الأسرة إلى شبكة الأمان الأخيرة. غير أنّ هذا “التأمين” الأهلي ذاته يتعرض لهشاشة؛ إذ يشير كبار السن إلى أعباء ضخمة تُلقى على الأبناء/الأحفاد لتأمين الغذاء والدواء والتنقل، ومع كل موجة نزوح تتراجع قدرة الأسرة على الرعاية، وتتزايد قابلية كبار السن للعزلة والاكتئاب والاضطرابات المعرفية. هذه المعاناة النفسية لا تقل خطورة عن المعاناة الجسدية، خصوصًا حين تتزامن مع فقدان متصاعد للأقارب والأصدقاء وجيران العمر.

القانون الدولي: مكانة كبار السن والالتزامات الواقعة على الأطراف

من منظور القانون الدولي، كبار السن—بوصفهم مدنيين—محميون بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك ضرورة احترام حياتهم وسلامتهم وكرامتهم وضمان وصولهم إلى الرعاية الصحية والمياه والغذاء والمأوى، وعدم عرقلة إجلائهم الطبي. كما تؤكد مبادئ حقوق الإنسان—الحق في الحياة، والصحة، والمستوى المعيشي اللائق—أنّ أي نزاع مسلّح لا يرفع هذه الالتزامات، بل يضاعفها. وبالتالي تلتزم جميع الأطراف باتخاذ تدابير خاصة لتخفيف أعباء النزاع على كبار السن، وضمان ألا يصبح العمر سببًا في الحرمان من العلاج أو الإغاثة.

الفجوات المعرفية والشفافية

يعاني الرصد المتخصص لضحايا كبار السن من فجوات في البيانات: صعوبة الوصول إلى المواقع، تعثّر استخراج الجثامين من تحت الأنقاض، وانقطاع السجلات الصحية. ومع ذلك، تسمح المؤشرات الجزئية بإدراك اتجاه عام: كلما زاد نفاد الأدوية وتقطّعت خطوط الرعاية الأساسية، كلما ارتفعت وفيات المضاعفات بين كبار السن، حتى دون إصابات مباشرة. إن سدّ هذه الفجوات يتطلب آليات توثيق متمحورة حول الفئة العمرية، وتعاونًا مؤسساتيًا بين الصحة والتنمية الاجتماعية والمنظمات الأممية.

توصيات عاجلة حسب مركز الميزان لحقوق الانسان ضرورة العمل على فتح مسارات الإمداد الطبي دون قيود: إدخال فوري ومنتظم للأدوية الأساسية للأمراض المزمنة (القلب، الضغط، السكري، السرطان)، والمستهلكات الطبية، وأجهزة المراقبة المنزلية. وتثبيت حدّ أدنى مخزوني يراعي حجم الشيخوخة في غزة.

العمل على استعادة الرعاية الأولية المتنقلة: نشر عيادات متنقلة مخصصة لكبار السن في ملاجئ النزوح، مع جداول متابعة للضغط والسكر، وبرامج تطعيم موسمية، وإحالات سريعة للحالات الحرجة، و ضرورة تأمين النقل الطبي والمُعينات: دعم سيارات الإسعاف والنقل الملائم لذوي الإعاقات وكبار السن، وتوفير الكراسي المتحركة والعكاكيز وأجهزة السمع والبصر التعويضية.

التأكيد على حماية الاستمرارية العائلية: تمويل حزم نقدية مؤقتة للأسر التي ترعى كبار السن، لتخفيف كلفة الأغذية الخاصة والأدوية والتنقل، وتقليل تفكك الشبكات الأسرية، مع ضمان الوصول للعلاج خارج القطاع: تبسيط إجراءات التحويل الطبي وتأمين المرور الآمن والمستمر للحالات التي لا علاج لها داخل غزة، خاصةً السرطانات والقلب والأوعية الدموية.

العمل على تمييز إيجابي في المساعدات الشتوية: إدخال عاجل لمواد الإيواء والتدفئة الملائمة للعمر والأمراض المزمنة قبل ذروة البرد، وتوزيعها وفق سجلاتٍ مُحدّثة بأماكن تواجد كبار السن.توثيق مُحكم قائم على العمر: اعتماد أدوات رصد تُظهر أثر النزاع بحسب الفئات العمرية والجنس والإعاقة، لقياس وفيات/إصابات كبار السن بدقة وتحسين توجيه الموارد.

خاتمة

في غزة، تحولت الشيخوخة إلى مهمةٍ شاقة تُدار يوميًا بجرعاتٍ من الصبر وبدائل الدواء وروابط الأسرة. إن كبار السن ليسوا “تفصيلاً” في المشهد الإنساني—إنهم قلبُه المتعب. وفيما لا تزال مؤشرات العنف والحرمان تضغط على أبسط حقوقهم، يبقى فتح الممرات الإنسانية واستعادة الحدّ الأدنى من الرعاية الأساسية، وإنهاء القيود على العلاج والإمداد الطبي، والإقرار بحقوقهم غير القابلة للتصرّف، اختبارًا مباشرًا لالتزامات جميع الأطراف بالقانون الدولي. فالمعيار الحقيقي لجدية أي ترتيبات أمنية أو سياسية في غزة، بعد عامين من الإبادة الجماعية، هو: هل سيستطيع المسنّ أن يحصل على دوائه، وأن ينتقل بأمان إلى طبيبه، وأن يقضي شتاءه دافئًا في مأوى لائق؟ الإجابة على هذا السؤال هي، في الجوهر، اختبار لمدى إنسانية الجميع.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة