لليوم الثاني على التوالي، يستيقظ عشرات الآلاف من العائلات النازحة في قطاع غزة على وقع مياهٍ تتسرّب إلى الخيام وملابسٍ مبللة وأغطيةٍ لا تدفئ. المطر الذي هطل بغزارة حوَّل المساحات الرملية إلى مستنقعات طين، وجرف ما تبقّى من أمتعةٍ بسيطة، فيما يواصل الحصار تقييد إدخال مواد الإيواء المطلوبة لإقامة بدائلٍ مؤقتة تحفظ الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.
يتأثر القطاع بمنخفضٍ جوي مصحوب بكتلةٍ باردة ورياحٍ وأمطار، تشير معطيات الأرصاد الفلسطينية إلى انحساره مساء الأحد. لكن أثره كان فوريًا وقاسيًا على تجمعات النزوح المنتشرة في فراغات المدن وعلى أطراف الخراب؛ إذ تكدست المياه في أرضٍ غير مهيأة للتصريف، فغرقت الخيام، وتبللت الأغطية، وتعطلت القدرة على الطهي والتدفئة. ويقدّر المكتب الإعلامي الحكومي عدد النازحين بنحو 1.5 مليون شخص، يعتمد معظمهم على خيام تالفة باتت، وفق تقديراته نهاية أيلول/سبتمبر، غير صالحة للإقامة بنسبة 93% (125 ألف خيمة من أصل 135 ألفًا).
في واحدٍ من المقاطع المصورة التي تداولتها منصّات محلية، يظهر طفلٌ حافي القدمين، لم يتجاوز العاشرة، يرفع بنطالًا رقيقًا حتى ركبتيه ويخوض برك الطين حاملاً بضع قطعٍ من الأمتعة لينجو بها إلى مكانٍ ما زال جافًا. يعلّق الطفل بغصّة: «أين سننام الليلة؟» قبل أن يجيب نفسه: «في الشارع».
في خيمةٍ أخرى بمنطقة المواصي غرب خان يونس، تصف مريم أصليح، الحامل في شهرها التاسع، كيف سارعت لإيقاظ أطفالها مع تسلل المياه، ثم حاولت مع زوجها إفراغ الخيمة بآنيةٍ بلاستيكية وحفر مجارٍ بدائية، «لكن بركة الماء بقيت داخل الخيمة»، تقول وهي تؤكد أن «الأغطية والفُرُش تلفت… القلوب تبكي من الداخل».
أرقام ومؤشرات
تُظهر الحصيلة المتداولة لدى الجهات المحلية أن نحو 90% من البنى التحتية المدنية في غزة تضررت كليًا أو جزئيًا خلال العامين الماضيين، بخسائر أولية قُدّرت بنحو 70 مليار دولار، ما دفع كتلًا واسعة من السكان إلى النزوح والاعتماد على حلول إيواء بدائية. وإلى جانب القصف الذي أصاب تجمعات الخيام مباشرة أو محيطها، تسببت عوامل الطبيعة في تهالك واسع: حرارةٌ قاسية صيفًا، وأمطار ورياح شتاءً.
استجابة محدودة وقدرات منهكة
أفاد الدفاع المدني أنه «يتعامل مع عشرات الخيام» التي غمرتها المياه في مواصي خان يونس ومناطق أخرى، مؤكّدًا أمس غرق مئات الخيام في مواقع متفرقة. لكن الجهاز أحال محدودية قدرته إلى تدمير معداته خلال الحرب، فيما تعمل البلديات بإمكانات بدائية لا تلبّي حاجة التصريف والرفع المائي.
في المقابل، يشير المكتب الحكومي إلى حاجةٍ عاجلة لا تقل عن 250 ألف خيمة و100 ألف كرفان كبدائلٍ مؤقتة «حتى بدء إعادة الإعمار»، في ظل استمرار القيود الإسرائيلية على إدخال مواد الإيواء (الخيام، البيوت المتنقلة، مستلزمات العزل والتأطير).
فجوة الإغاثة تتّسع مع الشتاء
انكشاف الخيام أمام الأمطار يضاعف مخاطر الأمراض ونقص التدفئة وتلف الغذاء القليل المتوافر، فضلًا عن تعطل وصول الخدمات الأساسية. كثيرون فقدوا الأحذية والملابس الجافة، واندفعوا حفاةً لانتشال ما يمكن إنقاذه. المشهد واحدٌ من رفح حتى الشمال: خيامٌ غارقة، عائلاتٌ مذهولة أمام أمتعةٍ وحيدة خسرتها في ساعات، وغيابٌ لممرات صرفٍ أو أرضٍ ممهّدة.
مسؤوليات وتعهدات معلّقة
تؤكد الجهات المحلية أن القيود المفروضة على إدخال مستلزمات الإيواء تُناقض الالتزامات الواردة في اتفاق وقف إطلاق النار (دخل حيّز التنفيذ في 10 تشرين الأول/أكتوبر)، وأن استمرار منع الخيام والكرفانات وأعمدة التثبيت والعوازل يُبقي مئات الآلاف في مواجهة مباشرة مع الشتاء من دون أي درعٍ واقٍ. وتشدّد على أن البدائل المرتجلة (أغطيةٌ إضافية، حُفر تصريف يدوية) غير كافية وقد تنطوي على مخاطر إضافية، لا سيما في المناطق المتصدعة معماريًا.
إنسانية القصة… وبداهة الحل
الصور التي خرجت من المخيمات خلال اليومين الماضيين ـ أمهاتٌ يغطين أطفالهن بملابسهن، رجالٌ يرفعون الأغطية الثقيلة لتفادي ملامسة الماء، صغارٌ يتخبطون في الطين ـ ليست «تفاصيل عابرة» بقدر ما هي ملفّ إيواء عاجل لا يحتمل التأجيل.
المطلوب واضح في حدّه الأدنى: فتح مسالك إدخال مواد الإيواء على نحوٍ منتظم، توفير معدات تصريف ورفع مائي، دعم البلديات والدفاع المدني، وتأمين كرفانات وخيامٍ ملائمة ومعزولة، تمهيدًا لبرامج إعادة الإعمار. من دون ذلك، سيظل الشتاء عنوانًا إضافيًا للمعاناة، وسيتحول كل منخفضٍ جوي إلى اختبار قاسٍ لقدرة الناس على النجاة بما تبقّى لديهم من حياة.
