مع طرح مشروع قانون الحق في الحصول على المعلومات مجدّدًا للنقاش العام عبر منصّة التشريعات الحكومية، شدّد الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان على ضرورة إقرار قانون حديث يكرّس حق المواطنين في المعرفة، ويعزّز مشاركتهم في إدارة الشأن والمال العام، بما ينسجم مع المعايير الدولية ويغلق الباب أمام استخدام الاستثناءات لتقييد هذا الحق.
مسار طويل من المطالبة بإقرار القانون
تؤكد مؤسسات المجتمع المدني أنّ مشروع قانون الحق في الحصول على المعلومات ليس جديدًا، بل هو حصيلة سنوات طويلة من المطالبة والنقاش منذ الحكومات الأولى والمجلس التشريعي الأول، حيث جرى التوافق منذ تلك المرحلة على أن حق المواطن في الوصول إلى المعلومات العامة حقّ أساسي مرتبط مباشرة بالديمقراطية والشفافية وحسن إدارة المال العام.
وترى هذه المؤسسات أنّ كل ما يتصل بالشأن العام والمال العام هو ملك للمواطن، وأن غياب إطار تشريعي واضح ينظم إتاحة المعلومات يعمّق الفجوة بين المواطن والسلطة، خاصة في ظل تعطّل المجلس التشريعي، ما يحد من أدوات الرقابة الرسمية ويفرض الحاجة إلى توسيع مساحة الرقابة والمساءلة الشعبية والإعلامية.
أمان: لا نريد قانونًا "يقيّد المعلومة" بل يحميها
هامة زيدان، مديرة العمليات في ائتلاف أمان، أوضحت خلال مقابلة اذاعة رصدتها وكالة قدس نت للأنباء أن الائتلاف خاض خلال السنوات الماضية حوارات متعددة مع الحكومات المتعاقبة حول نسخ مختلفة من مشروع القانون، بعضها كان مقبولًا إلى حد ما، وبعضها الآخر – كما في إحدى الصيغ المطروحة في عهد حكومة الدكتور محمد اشتية – اعتبرته مؤسسات المجتمع المدني قانونًا "يقيّد المعلومة ولا يتيحها"، الأمر الذي أدى إلى اعتراض واسع حال دون اعتماده.
وأشارت زيدان إلى أن المسودة الأخيرة التي جرى نشرها على منصة التشريع شهدت تحسنًا واضحًا، حيث استجابت لجزء من ملاحظات المجتمع المدني، لكنها لا تزال تتضمن نقاطًا جوهرية تثير القلق، أهمها استخدام مصطلحات فضفاضة وغير محددة بدقة، مثل "الأمن العام" و"المعلومات السرية" والاستثناءات العامة، من دون وضع تعريفات قانونية واضحة.
وتحذر زيدان من أن استمرار هذه الصياغات في النص النهائي يفتح المجال لاستخدامها ذريعة لحجب المعلومات تحت عناوين عامة، بدل أن تكون الاستثناءات محددة ومضبوطة وخاضعة لرقابة حقيقية، كما تنص المعايير الدولية الفضلى لقوانين الحق في الحصول على المعلومات.
كما انتقدت زيدان ترتيب الأولوية التشريعية كما تظهره المسودة الحالية، حيث يبدو أنّ قوانين أخرى قد تُقدَّم عمليًا على قانون الحق في الحصول على المعلومات، بحيث يُسمح بحجب المعلومات متى ما استندت الجهة الرسمية إلى نصوص في تشريعات أخرى، بدلاً من أن يكون هذا القانون هو المرجعية الأعلى التي تُعدّل أو تُلغى تبعًا لها النصوص المتعارضة في القوانين الأخرى.
وترى زيدان أن الأصل أن يكون مبدأ "إتاحة المعلومات" هو القاعدة العامة، وأن يكون الحجب استثناءً ضيقًا ومحدّدًا بنصوص واضحة لا تقبل التأويل، وبما يضمن حق المواطنين والصحافيين والباحثين في الوصول إلى المعلومات دون مشقة غير مبررة أو مخاطر مهنية وأمنية.
أزمة ثقة سببها تغييب المعلومة
تلفت زيدان إلى أن غياب قانون فعّال للحق في الوصول إلى المعلومات يسهم في تعميق أزمة الثقة بين المواطن والسلطة في فلسطين، مشيرة إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه الأزمة يعود إلى حجب المعلومة أو صعوبة الحصول عليها.
وتؤكد أن المواطنين، بفضل ارتفاع مستوى التعليم، يدركون اليوم أن لهم حقًا في المعلومة، لكنهم في المقابل يعلمون أن الأنظمة والقوانين المطبَّقة عمليًا لا تتيح هذا الحق بسهولة، وأن الأصل في الممارسة الجارية هو التقييد وليس الإتاحة.
وتضيف أن الصحافيين والباحثين يواجهون في كثير من الأحيان صعوبات كبيرة في الوصول إلى البيانات العامة، وأن مؤسسات مثل ائتلاف أمان، خلال إعداد تقاريرها الرقابية، تصطدم برفض بعض الجهات تزويدها بمعلومات أساسية حول إدارة الشأن والمال العام، ما يعرقل جهود تعزيز النزاهة والشفافية في المؤسسات الفلسطينية.
الهيئة المستقلة: ثلاث ملاحظات جوهرية على المسودة
من جهته، استعرض طاهر المصري، الباحث القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، قراءة الهيئة للمسودة الحالية لمشروع القرار بقانون، مؤكدًا أن صياغتها العامة تنطلق من مبادئ متوافقة مع المرجعيات الدولية، كالمادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومعايير منظمة "المادة 19" الدولية المعنية بحرية الرأي والتعبير والحق في المعرفة.
لكن المصري أوضح أن الهيئة سجّلت ثلاث ملاحظات جوهرية على المسودة ينبغي معالجتها قبل إقرار القانون:
غياب مبدأ الكشف الأقصى عن المعلومات والتدرج التشريعي السليم
يرى المصري أن النصوص الحالية لا تكرّس مبدأ "الكشف المطلق" عن المعلومات، ولا تلتزم بمبدأ مواءمة التشريعات، مشيرًا إلى أن إحدى المواد تعطي فعليًا الأولوية لقوانين وتشريعات أخرى في حال التعارض، وهو ما يشكل مخالفة لقاعدة الهرم التشريعي، وقد يؤدي في النهاية إلى إفراغ القانون من محتواه، بدل أن يكون أداة لتكريس الشفافية وإتاحة المعلومات.
استثناءات واسعة وعبارات فضفاضة في المادة (16)
يتوقف المصري عند المادة (16) من المسودة، التي تتضمن عددًا كبيرًا من الاستثناءات الرئيسية والفرعية، بعضها صيغ بعبارات عامة وفضفاضة، ما يجعلها قابلة لتفسيرات متشددة من قبل الجهات الرسمية، ويقوض مبدأ "استثناءات محدودة ومضبوطة" الذي تؤكد عليه المعايير الدولية. ويخشى المصري أن يؤدي الإبقاء على هذه الصياغة إلى استخدام الاستثناءات كقاعدة، بدل أن تكون حلاً استثنائيًا في حالات محددة ومتفق عليها.
عدم تحديد مدة رفع السرية عن المعلومات المصنفة
الملاحظة الثالثة تتعلق بغياب نص صريح يحدد المدة الزمنية التي تُرفع بانقضائها السرية عن الوثائق المصنفة "سرية" أو "غير قابلة للنشر"، ما يحرم الباحثين والرأي العام من الاطلاع على الأرشيف الوطني وفهم كيفية إدارة الدولة لملفاتها في المدى البعيد. وتشدد الهيئة على ضرورة إدراج نص يفرض رفع السرية تلقائيًا بعد فترة زمنية محددة، إلا في أضيق الحدود.
نحو قانون يعيد الاعتبار لحق المواطن في المعرفة
في ضوء هذه الملاحظات، يتفق ائتلاف أمان والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان على أن المسودة المطروحة تمثل خطوة إلى الأمام مقارنة بصيغ سابقة، لكنها لا تزال بحاجة إلى تعديلات جوهرية، لا سيما في ما يتعلق بضبط الاستثناءات، وترسيخ مبدأ أولوية قانون الحق في الحصول على المعلومات، وضمان الكشف الأقصى والفعّال عن المعلومات.
ويشدد الطرفان على أن القانون المنشود يجب أن يُنظر إليه كركن أساسي من أركان أي نظام ديمقراطي يسعى لتعزيز المشاركة الشعبية والرقابة المجتمعية، لا كإجراء شكلي لتجميل المشهد أمام المجتمع الدولي.
كما يطالبان بأن تتواصل عملية النقاش العام بطريقة شفافة، تتيح لمؤسسات المجتمع المدني والخبراء القانونيين والصحافيين والمواطنين تقديم ملاحظاتهم، وأن تلتزم الحكومة بأخذ هذه الملاحظات بجدية، بما يفضي في النهاية إلى قانون يضمن حق الفلسطيني في أن يعرف، وأن يسائل، وأن يشارك في إدارة الشأن والمال العام على أسس من الثقة والشفافية والمساءلة.
