"الكهرباء كسلاح": تقرير حقوقي يكشف استهداف الاحتلال لقطاع الطاقة في غزة وتداعياته الكارثية على حياة المدنيين

محطة كهرباء غزة.jpg

غزة – يكشف تقرير حقوقي جديد صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان أن قوات الاحتلال الإسرائيلي حوّلت قطاع الكهرباء في غزة إلى أداة ضغط وعقاب جماعي، عبر استهداف ممنهج للبنية التحتية للطاقة خلال جريمة الإبادة الجماعية الجارية في القطاع، بما أدى إلى انهيار شبه كامل للمنظومة الكهربائية، وتفاقم غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية للسكان. 

الورقة، التي جاءت بعنوان "الكهرباء كسلاح"، ترصد بالتفصيل حجم الدمار الذي لحق بشبكات الكهرباء ومحطاتها ومرافقها، وتشرح كيف انعكس هذا الاستهداف على كل تفاصيل الحياة اليومية في غزة: من غرف العمليات في المستشفيات، إلى نقاط تعبئة مياه الشرب، وصولًا إلى الخيام التي تأوي مئات آلاف النازحين. وتنتهي بجملة من التوصيات الموجّهة للمجتمع الدولي من أجل وقف استخدام الكهرباء كأداة حصار، وضمان إعادة إعمار هذا القطاع الحيوي كشرط أساسي لتحسين الواقع الإنساني. 

أزمة مستمرة منذ 2006 تفجّرت إلى انهيار شامل بعد الحرب

يعيد التقرير التذكير بأن أزمة الكهرباء في غزة ليست طارئة على الحرب الأخيرة، بل تعود جذورها إلى ما بعد العام 2006، حين بدأ العجز المزمن في التيار الكهربائي نتيجة الحصار الإسرائيلي المشدد على القطاع وتقليص إمدادات الطاقة ومنع إدخال المعدات وقطع الغيار اللازمة لتطوير الشبكات. غير أن الهجوم الأخير، الذي وصفه مركز الميزان بأنه "جريمة إبادة جماعية"، نقل هذه الأزمة من مستوى النقص المزمن إلى مستوى الانهيار شبه التام. 

ففي ظل سنوات من الحصار والقيود، كانت غزة تحصل على الكهرباء لساعات محدودة يوميًا وفق جداول تقنين معروفة نسبيًا للسكان. لكن منذ بدء العدوان في تشرين الأول/ أكتوبر، تعرّضت منظومة الكهرباء لضربات متتالية ومباشرة استهدفت خطوط النقل الرئيسة، ومحطات التوزيع، وأبراج الضغط العالي، وغرف التحكّم، إضافة إلى منع شبه كامل لإدخال الوقود اللازم لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في القطاع. ومع مرور الأسابيع، وجد أكثر من مليوني فلسطيني أنفسهم في واقع جديد عنوانه الأساسي: الظلام الطويل والاعتماد على مولّدات متهالكة ووقود نادر. 

أرقام صادمة للخسائر: آلاف المحولات والأعمدة خارج الخدمة

تتضمن "ورقة الحقائق" الصادرة عن مركز الميزان حصيلة أولية للخسائر التي تكبدها قطاع الكهرباء، تكشف حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية خلال فترة زمنية قصيرة. وبحسب الأرقام الواردة في التقرير، قُدّرت الخسائر المالية المباشرة في قطاع الكهرباء بنحو 750 مليون دولار أميركي، تشمل الأضرار في الشبكات والمحطات والمعدات والمخازن. 

وتشير البيانات إلى تضرر 5,080 محولًا كهربائيًا، أي ما نسبته حوالي 80% من إجمالي عدد المحولات العاملة في قطاع غزة قبل الحرب، وهو ما يعني فعليًا شلّ القدرة على توزيع التيار حتى في المناطق التي ما زالت قادرة نظريًا على تلقي التغذية. كما تضرر 2,235 عمودًا كهربائيًا بين تدمير جزئي وكامل، وهي الأعمدة التي تحمل خطوط الضغط المتوسط والمنخفض داخل المدن والمخيمات والقرى. 

أما على مستوى التوصيلات المنزلية، فيذكر التقرير أن ما يقارب 235 ألف توصيلة (اشتراك منزلي) تعرضت لأضرار، وأن نحو 90% منها خرج عن الخدمة، ما يعني أن معظم المنازل في غزة لم تعد موصولة فعليًا بالشبكة حتى لو عاد التيار إلى بعض الخطوط الرئيسة. كما دمّر الاحتلال بالكامل سبع محطات تحويل رئيسة وورشة صيانة مركزية واحدة، ما أفقد شركة توزيع الكهرباء حوالي 70% من قدرتها التشغيلية، إضافة إلى تدمير ستة مبانٍ ومرافق تابعة للشركة، وأكثر من 52 مركبة وآلية ثقيلة، تمثّل حوالي 80% من أسطولها التشغيلي. 

هذه الأرقام تعني، بحسب التقرير، أن الحديث لا يدور عن أضرار جزئية يمكن إصلاحها خلال أسابيع أو أشهر، بل عن بنية تحتية تحتاج إلى إعادة بناء شاملة من الصفر تقريبًا، في ظل استمرار القصف ومنع دخول المعدات اللازمة، وهو ما يطيل أمد المعاناة الإنسانية ويجعل أي حديث عن "عودة سريعة للخدمات" غير واقعي.

الكهرباء شرط للحياة: المستشفيات أولاً في مواجهة الانقطاع

واحدة من أهم النقاط التي تشدد عليها ورقة مركز الميزان هي أن الكهرباء ليست خدمة ثانوية، بل هي العمود الفقري لكل القطاعات الحيوية في غزة، وفي مقدمتها القطاع الصحي. فالمستشفيات ووحدات العناية المركزة لا تستطيع العمل دون تيار مستقر لتشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي، وحضّانات الأطفال، وأجهزة غسيل الكلى، وأجهزة التصوير الطبي، وغيرها من المعدات الطبية الحساسة.

مع انهيار المنظومة الكهربائية، اضطرت معظم المستشفيات إلى الاعتماد على مولدات الطوارئ لفترات تتجاوز الطاقة المصممة لها، في ظل نقص حاد في الوقود وقطع الغيار. وتوضح الورقة أن أي خلل طارئ في هذه المولدات، أو تأخير في إمدادها بالوقود، يعني عمليًا فقدان أرواح مرضى لا يمكن إنقاذهم بوسائل بديلة، وهو ما حدث بالفعل في أكثر من حالة موثّقة في تقارير سابقة للمركز ومنظمات دولية أخرى. 

ولا تقف التداعيات عند حدود المستشفيات؛ فالمراكز الصحية الأولية، ونقاط الإسعاف، والعيادات الميدانية التي انتشرت في مخيمات النزوح تحتاج جميعها إلى الطاقة لتشغيل الثلاجات الخاصة بحفظ اللقاحات والأدوية الحساسة، ولضمان الإضاءة والتجهيزات الأساسية لاستقبال المصابين والمرضى ليلًا. في كثير من هذه المواقع، أصبحت مصابيح الهاتف المحمول والأدوات البسيطة هي الوسيلة الوحيدة لإضاءة غرف الفحص وتقديم الإسعاف الأولي.

مياه ملوثة وصرف صحي منهار… حين تتوقف المضخات

يذهب التقرير إلى أن استهداف قطاع الكهرباء انعكس مباشرة على قطاعي المياه والصرف الصحي، وهما ركيزتان أساسيتان لأي استجابة إنسانية. فمحطات تحلية مياه البحر، وآبار البلدية، ومحطات ضخ المياه إلى الأحياء السكنية، كلها تعتمد بشكل كامل على الطاقة الكهربائية. ومع الانقطاعات الطويلة، توقفت الكثير من هذه المحطات عن العمل أو تعمل لساعات محدودة لا تلبي إلا جزءًا ضئيلًا من حاجة السكان للمياه. 

أما شبكات الصرف الصحي، فتعطّل مضخاتها أدى إلى طفح المياه العادمة في الشوارع ومحيط المخيمات المعدة للنازحين، ما خلق بيئة مثالية لانتشار الأمراض المعدية، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن، في ظل اكتظاظ غير مسبوق وسوء في التهوية والنظافة الشخصية. ويشير التقرير إلى أن هذا الواقع يهدد باندلاع أوبئة إذا لم يتم توفير الكهرباء لساعات كافية لتشغيل محطات المعالجة والضخ بشكل منتظم.

غذاء من دون برّادات… وأسواق عاجزة عن تخزين السلع

على مستوى الأمن الغذائي، تظهر الورقة أن انقطاع الكهرباء لفترات طويلة حرم العائلات من أبسط وسائل حفظ الطعام. فمعظم الأسر لا تستطيع تخزين اللحوم أو الخضروات أو الحليب لفترات تتجاوز ساعات قليلة، ما يضطرها إلى شراء كميات صغيرة يوميًا بأسعار مرتفعة، إن توافرت أصلاً هذه السلع في الأسواق.

كما أن المخابز الكبيرة والمتوسطة تعتمد على الطاقة لتشغيل الأفران وخطوط الإنتاج، ومع شح الوقود لساعات تشغيل المولدات، تقلّص إنتاج الخبز، واصطفّت طوابير طويلة يوميًا للحصول على أرغفة قليلة، في وقت تحتاج فيه آلاف العائلات النازحة إلى حصص إضافية من الغذاء. ولأن المطاحن والمخازن لا تمتلك القدرة الدائمة على تشغيل أنظمة التهوية والتبريد، تتعرض المواد الغذائية لخطر التلف، ما يزيد من الفاقد ويضغط أكثر على العرض في السوق المحلي. 

حياة يومية في الظلام: تعليم معطّل واتصال مقطوع

لا تقتصر آثار استهداف الكهرباء على القطاعات الكبرى، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية للسكان، كما يوثّق التقرير. فالعائلات تقضي معظم ساعات الليل في العتمة، بين محاولات لشحن الهواتف عبر ألواح شمسية صغيرة أو بطاريات متنقلة، وإضاءة خافتة من الشموع أو المصابيح اليدوية، بما يرفع أيضًا من مخاطر الحرائق داخل البيوت والخيام.

الطلاب الذين يحاولون متابعة تعليمهم، سواء عبر المدارس المؤقتة أو منصات التعليم عن بعد، يواجهون صعوبة في الدراسة والمراجعة لغياب الإضاءة المناسبة وعدم القدرة على تشغيل الأجهزة الإلكترونية. كما أن شبكات الاتصالات والإنترنت تتأثر مباشرة بانقطاع الطاقة، حيث تتوقف أبراج الاتصالات والسنترالات عن العمل لساعات طويلة، فتُقطع صلة الناس بالعالم الخارجي وبأقاربهم داخل القطاع وخارجه، ويُشل عمل فرق الطوارئ والإنقاذ التي تعتمد على الاتصال للتنسيق والاستجابة السريعة.

الكهرباء كسلاح: قراءة قانونية وحقوقية

من منظور قانوني، يؤكد مركز الميزان أن استهداف قطاع الكهرباء في سياق العدوان والحصار المتواصل على غزة لا يمكن اعتباره مجرد ضرر جانبي، بل يرقى إلى مستوى استهداف متعمد للبنية التحتية المدنية الحيوية، ما يجعله خرقًا واضحًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، الذي يحظر مهاجمة الأعيان المدنية أو استخدام التجويع وحرمان السكان من الخدمات الأساسية كأسلوب من أساليب الحرب. 

وتشير الورقة إلى أن حرمان السكان من الكهرباء يعني عمليًا انتهاك مجموعة واسعة من حقوق الإنسان الأساسية، من بينها الحق في الحياة، والحق في الصحة، والحق في المياه والغذاء, والحق في السكن الملائم والكرامة الإنسانية. وبناءً على ذلك، يرى المركز أن سياسة استهداف قطاع الكهرباء ومنع إدخال الوقود وقطع الغيار تمثّل شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المحظور بموجب اتفاقيات جنيف، وقد ترقى إلى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية تستوجب المساءلة أمام الهيئات القضائية الدولية المختصة. 

شهادات من داخل شركة الكهرباء: عمل في ظروف مستحيلة

يعرض التقرير جزءًا من إفادات مسؤولين ومهندسين في شركة توزيع الكهرباء بمحافظات غزة، يصفون فيها الواقع اليومي للعمل في ظل القصف المستمر ونقص الموارد. أحد المهندسين يوضح أن فرق الصيانة الميدانية تتحرك لإصلاح الأعطال "تحت النار"، وأن عددًا من العاملين في الشركة قتلوا أو أصيبوا أثناء محاولتهم إعادة وصل الخطوط أو إصلاح المحولات في المناطق المستهدفة. 

ويشير هؤلاء إلى أن إدارة الشبكة تحوّلت إلى عملية توزيع للأزمة أكثر من كونها إدارة خدمة؛ إذ تُقطع الكهرباء عن أحياء كاملة لفترات طويلة، حتى يمكن توفير الحد الأدنى من التيار لمستشفى أو محطة مياه في منطقة أخرى. ويصف أحدهم الوضع بالقول: "نُطفئ حيًّا لنُبقي حيًّا آخر على قيد الحياة"، في تلخيص مؤلم لحجم العجز الذي تعيشه المنظومة الكهربائية في القطاع.

توصيات مركز الميزان: الكهرباء كأولوية إنسانية في الإغاثة والإعمار

في ختام ورقة "الكهرباء كسلاح"، قدّم مركز الميزان حزمة من التوصيات الموجّهة إلى المجتمع الدولي والهيئات الأممية والسلطة الفلسطينية والأطراف الفاعلة كافة. 

وحمّل المركز الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن الأضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء، وعن الآثار الإنسانية الناجمة عن حرمان السكان من التيار الكهربائي، ويدعو إلى فتح تحقيقات دولية مستقلة في هذه الانتهاكات باعتبارها جزءًا من ملف أوسع يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في غزة.

كما طالب الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بالضغط الفوري لضمان إدخال كميات كافية ومنتظمة من الوقود المخصص لتشغيل محطة التوليد والمولدات الرئيسة في المستشفيات ومحطات المياه والصرف الصحي، والسماح بدخول المعدات وقطع الغيار اللازمة لإصلاح الشبكات دون إبطاء أو اشتراطات سياسية.

ودعا المركز إلى إدراج إعادة إعمار قطاع الكهرباء ضمن أولويات أي خطة لإعادة إعمار غزة، مع تخصيص تمويل كافٍ لإعادة بناء المحطات والشبكات على أسس أكثر صمودًا واستدامة، بما في ذلك الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة ولا سيما الطاقة الشمسية، لتقليل الاعتماد على الوقود الخاضع للابتزاز السياسي والأمني. 

وشدد التقرير على ضرورة تمكين شركة توزيع الكهرباء والكوادر الفنية المحلية من العمل في بيئة آمنة، عبر توفير الحماية لفرق الصيانة والسماح لها بالوصول إلى المناطق المتضررة دون استهداف أو عرقلة، باعتبار هذه الفرق جزءًا من الاستجابة الإنسانية وليست طرفًا في النزاع.

لا إنقاذ لغزة من دون إعادة النور

يخلص تقرير مركز الميزان إلى أن التيار الكهربائي أصبح في قلب المعركة الدائرة على غزة؛ فبينما تُستخدم الصواريخ والقذائف لإسكات البشر وهدم البيوت، يُستخدم قطع الكهرباء لتقويض قدرة المجتمع على الصمود والنجاة وإعادة تنظيم حياته من جديد.

وفي الوقت الذي تتحدث فيه العواصم عن هدَن وترتيبات ما بعد الحرب وخرائط لإعادة الإعمار، يذكّر هذا التقرير بأن أي محاولة لتحسين الأوضاع الإنسانية في غزة ستظل ناقصة وعُرضة للفشل ما لم تُعَد الكهرباء إلى القطاع بشكل مستقر وكافٍ، وما لم يُرفع الحصار عن هذا القطاع الحيوي، ويُعامَل باعتباره حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، لا ورقة ضغط في يد قوة احتلال.

في شوارع غزة المظلمة، وفي أروقة المستشفيات، وبين خيام النازحين، يبدو هذا الحق في الضوء اليوم أقرب ما يكون إلى معركة بقاء؛ معركة يخوضها المدنيون يوميًا ضد العتمة، وضد سياسات تستهدف حتى الشرارة التي تُبقي على ما تبقى من حياة.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة