شكّل العام المنصرم من الحرب على قطاع غزة مرحلة مفصلية في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث تداخلت العمليات العسكرية مع التحركات السياسية والدبلوماسية، وبرز الدور الأمريكي بوصفه عاملًا حاسمًا في توجيه مسارات الحرب ونتائجها.
وبينما أكدت الولايات المتحدة، في بيانات رسمية متكررة، التزامها بأمن إسرائيل وسعيها المعلن للتوصل إلى تهدئة، يرى فلسطينيون، محللون ومدنيون، أن السياسات الأمريكية خلال هذا العام أسهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في إطالة أمد القتال وتعميق آثاره الإنسانية.
-- دعم عسكري وغطاء دبلوماسي
لأكثر من عامين، شنّت إسرائيل حربًا واسعة النطاق على قطاع غزة، وذلك عقب تنفيذ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هجومًا عسكريًا مباغتًا على البلدات الإسرائيلية المحاذية للجيب الساحلي، ما أدى إلى مقتل ما يقارب 1200 شخص واحتجاز حوالي 250 آخرين، بحسب بيانات إسرائيلية.
في المقابل، قتلت إسرائيل ما يزيد على 70 ألف فلسطيني، وأصابت حوالي 180 ألفًا آخرين جراء العمليات العسكرية المتواصلة، فيما دمّرت نحو 85 في المائة من قطاع غزة، حسب تقديرات فلسطينية وأممية.
وفي مقابلات منفصلة مع وكالة أنباء (شينخوا)، يرى محللون فلسطينيون أن الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال الحرب تجاوز الإطار التقليدي للتحالف السياسي، وهو ما أسهم في إطالة إسرائيل لأمد الحرب وتكبيد الفلسطينيين خسائر فادحة.
ويقول المحلل السياسي من غزة مصطفى إبراهيم إن الحرب الأخيرة أثبتت للفلسطينيين "أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا مجرد حليف لإسرائيل، بل شريكًا كاملًا منذ تأسيسها"، مشيرًا إلى أن حجم المساعدات العسكرية السنوية، التي تتجاوز 3.5 مليار دولار، إلى جانب الدعم التقني واللوجستي، انعكس بوضوح على طبيعة العمليات العسكرية في القطاع.
وخلال الأشهر الأولى من الحرب، تحدّث فلسطينيون عن إنشاء جسر جوي أمريكي لإمداد إسرائيل بالأسلحة، بالتوازي مع زيارات لمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى إلى تل أبيب.
ويرى إبراهيم أن تزويد إسرائيل بأسلحة متطورة، من بينها طائرات إف-35، "أسهم مباشرة في توسيع نطاق الدمار وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين".
من جهته، يعتبر المحلل السياسي من رام الله عصمت منصور أن الدعم العسكري غير المشروط والغطاء الدبلوماسي الأمريكي في المؤسسات الدولية "جعلا واشنطن شريكًا فعليًا في تدمير غزة"، مضيفًا أن هذا النهج أسهم في إطالة أمد الحرب دون التزام فعلي بالقانون الدولي أو حماية المدنيين.
-- تسلسل زمني مثير للجدل
على الصعيد السياسي، طرحت الولايات المتحدة خلال العام عدة مبادرات لوقف إطلاق النار، أبرزها ما عُرف بالخطة ذات العشرين بندًا.
ويقول مصطفى إبراهيم إن هذه الخطة "عكست عقلية الحكومة الإسرائيلية أكثر مما عكست سعيًا حقيقيًا لوقف الحرب"، إذ ربطت إعادة الإعمار بشروط أمنية وسياسية، من بينها نزع السلاح وترتيبات داخلية فلسطينية.
في الثاني من ديسمبر لعام 2024، وبعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، صعّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهجته محذرًا من "عواقب وخيمة" في حال عدم إطلاق سراح الرهائن في غزة.
وفي يناير، وبعد أيام من توليه الرئاسة، طرح ترامب لأول مرة فكرة نقل الفلسطينيين من القطاع إلى دول مجاورة، وكررها عدة مرات خلال الشهر نفسه.
وفي الرابع من فبراير، اقترح ترامب، قبيل لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نقل الفلسطينيين بشكل دائم من غزة، ثم أعلن في مؤتمر صحفي مشترك فكرة سيطرة الولايات المتحدة على القطاع.
ورغم تراجع بعض مساعديه لاحقًا عن أجزاء من التصريحات، استمر الجدل السياسي حول مستقبل غزة.
في مارس، اعتمد القادة العرب خطة مصرية لإعادة إعمار غزة بقيمة 53 مليار دولار، تهدف إلى تجنب التهجير القسري، غير أن رفض واشنطن وتل أبيب للخطة، وفق محللين فلسطينيين، عكس تباينًا عميقًا في الرؤى حول الحلول المطروحة.
-- البعد الإنساني
على المستوى الإنساني، تظهر شهادات المدنيين حجم التأثير المباشر للحرب. يحيى أبو هربيد، موظف حكومي يبلغ 37 عامًا، من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، نزح إلى مدينة غزة منذ بداية الحرب، وأُصيب في قصف استهدف خيام نازحين في ملعب اليرموك وسط غزة في يوليو.
وفي ذلك القصف المفاجئ، يقول أبو هربيد لوكالة أنباء (شينخوا)، إنه فقد شقيقه وزوج شقيقته، وأُصيب مع ابنه، مؤكدًا أن "الولايات المتحدة زودت إسرائيل بالسلاح خلال الحرب"، وأن هذا الدعم "انعكس نيرانًا مباشرة على المدنيين".
أما روان كريزم (20 عامًا)، الناجية الوحيدة من قصف مدرسة البراق في نوفمبر 2023، التي فقدت جميع أفراد عائلتها في لحظة واحدة، فهي ترى أن واشنطن "لم تمارس دور الوسيط"، بل واصلت تصدير السلاح، ما جعلها، بحسب قولها، "شريكًا في استمرار القتل".
ولم يتوقف الأمر عند توفير أمريكا السلاح لإسرائيل فحسب، بل زاد ذلك من خلال إنشاء مؤسسة غزة الإنسانية التي تحمل الطابع الإغاثي شكليًا، ولكن على أرض الواقع كانت فخًا "لقتل المزيد من المدنيين"، على حد قول أكرم عطا الله المحلل السياسي من غزة.
ويقول عطا الله لـ(شينخوا) إن تفضيل المبادرات الإنسانية المدعومة أمريكيًا على دور الأمم المتحدة، بما في ذلك تقليص دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ينسجم مع رؤية تسعى للتحكم بملف الإغاثة.
ويضيف "لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تلتزم بحد معين في مشاريعها التي من الواضح أنها تحمل أطماعًا سياسية واقتصادية وسلطوية في المنطقة، خاصة وأنها ما زالت تتحدث عن مشاريع اقتصادية أو عقارية في غزة قد تشكّل تهجيرًا مقنّعًا يتجاهل حقوق السكان".
وأوضح "أن الدور الأمريكي، كما تجلّى في الدعم العسكري، ومسارات التهدئة، وإدارة المساعدات، ترك أثرًا عميقًا على مجريات الصراع والواقع الإنساني في غزة، بينما تؤكد واشنطن سعيها للاستقرار، نحن نؤمن أنها أسهمت في تعميق المأساة الإنسانية، وأبقت آفاق الحل السياسي العادل بعيدة المنال، في انتظار تحولات دولية قد تعيد رسم مسار الصراع في المرحلة المقبلة.
ويتابع "إن ازدواجية المعايير الأمريكية ظهرت في التعاطي مع المساءلة الدولية، حيث استخدمت واشنطن نفوذها السياسي للتقليل من مفاعيل تقارير حقوقية دولية، أو لتأخير إجراءات قانونية تتعلق بالانتهاكات في غزة".
ويشدد على أن هذا السلوك عزز قناعة لدى الفلسطينيين بأن خطاب حقوق الإنسان يُوظَّف وفق المصالح السياسية، وليس كمرجعية ملزمة في أوقات الحرب.
كما يرى فلسطينيون أن السياسات الأمريكية الإقليمية، بما في ذلك العقوبات والتحالفات العسكرية، أسهمت في تعميق عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وأثرت بصورة غير مباشرة على الوضع الاقتصادي والإنساني في الأراضي الفلسطينية.
ويشير الكاتب والمحلل السياسي من غزة حسام الدجني إلى أن "الكلفة النهائية لهذه السياسات تُدفع من قبل المدنيين"، لافتًا إلى أن الفقر والنزوح وتراجع الخدمات الأساسية في غزة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا باستمرار الحرب.
ويقول الدجني لـ(شينخوا) "إن الدور الأمريكي ظل عنصرًا مركزيًا في معادلة الصراع، ليس فقط من خلال الدعم العسكري لإسرائيل، بل أيضًا عبر صياغة المسارات السياسية والإنسانية".
ويضيف "تزعم الولايات المتحدة أنها ملتزمة بإيجاد حل طويل الأمد، ولكن أي مسار مستقبلي لن يحقق الاستقرار ما لم يقم على احترام القانون الدولي، وضمان حماية المدنيين، ومعالجة جذور الصراع، بما في ذلك حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة".
-- غموض اليوم التالي للحرب
ويشير محللون فلسطينيون إلى أن الخطاب الأمريكي حول "اليوم التالي" في غزة ظل غامضًا ومتغيرًا طوال العام، ما زاد من حالة عدم اليقين لدى السكان.
فبين حديث عن تهدئة مؤقتة، ومقترحات لإدارة دولية أو أمريكية للقطاع، وتصريحات حول مشاريع إعادة إعمار مشروطة، يرى الفلسطينيون أن غياب رؤية واضحة تقوم على إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق السياسية جعل هذه الطروحات جزءًا من إدارة الأزمة لا حلها.
ويرى مصطفى إبراهيم أن الحديث المتكرر عن إعادة الإعمار دون ربطه بوقف دائم لإطلاق النار ورفع الحصار "يفرغ مفهوم الإعمار من مضمونه"، مشيرًا إلى أن الفلسطينيين خبروا، خلال جولات سابقة من الصراع، نمطًا متكررًا من التعهدات التي لا تُنفذ أو تُربط بشروط سياسية وأمنية معقدة.
ويضيف أن هذا النهج "حوّل الإعمار إلى أداة ضغط، بدل أن يكون استجابة إنسانية لاحتياجات عاجلة".
كما يلفت أكرم عطا الله إلى أن تصريحات ترامب حول اعتبار غزة "منطقة عقارية بالغة الأهمية" أعادت إلى الواجهة مخاوف فلسطينية قديمة تتعلق بمحاولات تغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي للقطاع.
ويقول إن هذه اللغة، حتى وإن عُدّلت لاحقًا من قبل مسؤولين أمريكيين، تركت أثرًا عميقًا في الوعي الفلسطيني، وعززت القناعة بأن بعض الطروحات الأمريكية تنظر إلى غزة من زاوية اقتصادية واستراتيجية، لا بوصفها موطنًا لملايين البشر.
وعلى الصعيد الدولي، يرى محللون أن الموقف الأمريكي أسهم في إضعاف فاعلية المؤسسات متعددة الأطراف، فالتقليل من دور الأمم المتحدة، ولا سيما الأونروا، أثار مخاوف من فراغ إنساني قد لا تتمكن المبادرات البديلة من سده.
ويؤكد عصمت منصور أن تهميش الأطر الدولية "لا يخدم فقط حسابات النفوذ، بل يفاقم معاناة المدنيين الذين يعتمدون بشكل أساسي على هذه المؤسسات".
ويقول "هناك فجوة عميقة بين الخطاب الأمريكي المعلن والممارسات على الأرض، وهذا بلا شك سيزيد من الصراع وسيطيل أمده بدلًا من حله في المستقبل القريب، ما يضع المنطقة في حالة توتر دائم وعدم استقرار".
