ذات يوم من أيام صيف عام 1979 كانت الإذاعة الاسرائيلية تبث برنامجا للمذيع الإسرائيلي زكي المختار اسمه " علي ذوقي " ويقوم هذا البرنامج على استضافة المذيع لأحد الشخصيات الاجتماعية او الادبية أو الثقافية العربية واليهودية، وفي ذلك اليوم كان اللقاء مع شاعر يهودي من اصل عراقي اسمه " ابراهام عوبديا " واسمه الاصلي ابراهيم عوض، بدأ الحديث عن الشعر العربي القديم والحديث عن ابرز الشعراء المعاصرين والقدامى، ثم انتقل المذيع ليسأل الشاعر ابراهيم عن بداياته الشعرية وكيف تمكن من تقوية ملكته الشعرية فقال: كنت طالباً في الإعدادية في البصرة ، ولاحظ استاذي انني اتمتع بملكة شعرية ، وكان هذا الاستاذ مسيحيا من فلسطين وهو احد اعضاء البعثة التعليمية التي كانت ترسلها الهيئة العربية العليا الى بعض البلاد العربية مثل العراق والكويت والبحرين وعمان للتدريس مجانا وعلى حساب الهيئة ، لقد نصحني استاذي المسيحي " حنا " حتى أتمكن من اللغة العربية ان احفظ القرآن ، وحفظته فعلا وبدأت الشعر الى أن اصدرت في بغداد اول ديوان في عام 1948 وارسلت نسخة اهداء الى استاذي في القدس اعترافا مني بفضله علي ، ولسوء الحظ فان النسخة لم تصله لأن الحرب كانت قد اندلعت وهاجر استاذي الى الاردن في نفس الوقت الذي هاجرت انا فيه من العراق الى فلسطين بحجة جمع شمل العائلات اليهودية .
وانتهى البرنامج .
ان ما يلفت النظر في هذا الحديث هو الاشارة الى جملة قضايا خاصة اولها ان الهيئة العربية العليا على الرغم من كل الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد الفلسطينية ، وخاصة مقارعة الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني ، كانت ترسل البعثات التعليمية المجانية الى البلاد العربية ، وثانيها ان الوفاق والوئام الذي كان يعيش الناس في ظلاله في البلاد العربية على اختلاف اديانهم وطوائفهم وصل الى حد ان استاذا مسيحيا ينصح طالبا يهوديا ان يحفظ القرآن الكريم ، دون ان يشعر أي منهما بأي حرج ، وثالثها نبرة المرارة التي تحدث فيها الشاعر الاسرائيلي عن الوضع الذي وصل إليه استاذه عندما رحل من القدس بسبب الحرب وما وصل إليه هو نفسه عندما اجبر على الرحيل من العراق موطنه وموطن ابائه واجداده الى فلسطين تحت حجة جمع العائلات .
ان تعبيره هذا ينفي بشكل قاطع أي دافع صهيوني او عقائدي وراء هجرته الى فلسطين بل أن هجرته إليها كانت قهرية وقسرية استهدفت اقتلاعه من جذوره رغم انفه ، ذلك هو حال كل اليهود الذين نقلوا من العراق الى فلسطين نتيجة تواطؤ ثلاثي صهيوني بريطاني ، عراقي ولم يعد خافيا الدور الذي لعبه ديفيد بن غوريون عندما ارسل مبعوثيه الى هناك لالقاء الرعب في قلوب اليهود فامعنوا بهم قتلا وارهابا وتنكيلا ، ثم ترك للاعلام دور اشاعة ان العرب المتطرفين كانوا وراء هذه الافعال البشعة .
ولا زالت بعض جماهير اليهود تذكر دور الوزير في وزارة الليكود مردخاي بن فورات وشلومو هليل وزير الشرطة في حكومة المعراخ اللذين قادا التنظيم السري الصهيوني ونظما بنفسيهما سلسلة عمليات القاء القنابل على البيوت والمقاهي والمتاجر والكنس اليهودية ، ولا زالت جماهير اليهود تذكر الدعوى التي اقامها احد افراد هذه العصابات الذي فقد ساقه في احدى هذه العمليات ضد ديفيد بن غوريون ، يطالبه بالعطل والضرر بسبب تكليفه شخصيا بهذه العملية وقد اصبح مصابا بعاهة مستديمة .
في البداية لم تكن الحركة الصهيونية تريد هجرة يهود البلاد العربية الى فلسطين لأنها كانت تطمح ان تبني دولة يهودية اشكنازية ذات طابع غربي او اوروبي . الا أنها كانت تطالبهم فقط بالدعم السياسي المالي والاعلامي ، ومن هنا كان شعار الحركة الصهيونية " لا نريد ذهب امريكا فقط وانما نريد ذهب المغرب والعراق لنبني دولة " صهيون" الا ان الأمر اختلف بعد قيام " الدولة " واحتلال قوات الجيش الاسرائيلي لمساحات شاسعة ، اكثر مما اقره قرار التقسيم والخيبة التي اصابت الصهيونية في عدم وصول اعداد كبيرة من يهود اوروبا الى اسرائيل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وكان املهم ان هؤلاء اليهود لابد ان يرحلوا اليها نتيجة لما لاقوه من عذاب واضطهاد وقمع على ايدي النازيين والفاشيين .
ولذلك كان لابد مما ليس منه بد ، فاتجهت الحركة الصهيونية الى الجاليات اليهودية في العراق واليمن وشمال افريقيا ومصر وسورية تحثها على الهجرة . وبما أن هذه الجاليات لم يكن لديها الدافع لذلك ، ولم يكن هناك سبب يحثها على ذلك ، اذ كانت جميع هذه الجاليات تنعم بمستوى معيشة لائق وبحقوق مدنية وسياسية لم يحلم بها اليهود في اوروبا على مدى قرون طويلة. ففي العراق مثلا وبعد اعلان دستور عام 1908 انتخب اليهودي العراقي ساسون حزقيال عضوا في " مجلس المبعوثان " وتجدد انتخابه في دورات المجلس جميعها حتى قيام الحرب العالمية الأولى ، كما عين اول وزير للمالية سنة 1921 واستمر يشغل هذا المنصب عدة دورات متتالية ، بل أن قانون المجلس التاسيسي العراقي الصادر عام 1922 قد نص في الفقرة الثانية من مادته الثالثة على أن يكون من بين اعضائه يهوديان من يهود بغداد وواحد من كل من الموصل والبصرة وكركوك ، ونصت المادة التاسعة من قانون انتخاب النواب رقم احد عشر لعام 1946 على أن يمثل اليهود ثلاث نواب في قضاء مركز بغداد ونائبان في قضاء مركز لواء البصرة ونائب في لواء الموصل الى جانب من يمثلهم في مجلس الأعيان .
لذلك كان من الصعب بل من المستحيل اقناع هذه الجالية بضرورة الرحيل ، فالتجأت الحركة الصهيونية الى العنف والتآمر مع بعض السلطات المحلية والقوى الأجنبية التي كانت في ذلك الوقت تتحكم بمقاليد البلاد ، وكانت صاحبة مصلحة سياسية في تهجير هذه الجاليات لبناء الدولة اليهودية بامدادها بالقوى البشرية اللازمة ، يضاف الى ذلك كله ان تهجير عرب فلسطين من بلادهم ، ادى الى فراغ هائل وحاجة ماسة الى قوى بشرية تقوم بالأعمال التي يأنف يهود اوروبا ذوو الياقات البيضاء ان يقوموا بها .
كل هذه الأسباب دعت الى العمل على تهجير يهود البلاد العربية ، ومنهم يهود العراق ، وهنا يعترف ديفيد بن غوريون لصحيفة " كمفر " الناطقة باليديشية والصادرة في نيويورك بتاريخ 11 /7/1952 بقوله " انني لا أخجل من الاعتراف بأنني لو كنت املك ليس فقط الارادة ، بل القوة ايضا ، لانتقيت مجموعة من الشباب الأقوياء والأذكياء والمتفانين والمخلصين لافكارنا والمشتعلين بالرغبة ، للمساهمة في عودة اليهود الى اسرائيل ، ولارسلتهم الى البلدان التي بالغ فيها اليهود بالقناعة الاثمة ، وستكون مهمة هؤلاء الشباب ان يتنكروا بصفة اناس غير يهود ويرفعوا شعارات معاداة للسامية فانني استطيع ان اضمن انه من ناحية تدفق المهاجرين الى اسرائيل من هذه البلدان سوف تكون النتائج اكبر بعشرات آلاف المرات من النتائج التي يحققها الاف المبعوثين الذين يبشرون بمواعظ عديمة الجدوى " لقد حاول بن غوريون ان يعبر عن التمنيات ولكنه اخفى الأفعال . وهو في الواقع قد نفذ ما تمنى عندما ارسل مبعوثيه للعراق والمغرب ليقتلع اليهود من هناك بالقوة والقتل ، حتى تمكن من جلب مئات الألوف من اليهود الذين عاشوا في هذه البلاد قرونا طويلة .
في كتاب صدر عن دار النشر السفاردية عام 1972 في القدس تحت عنوان " الخروج من العراق " لمؤلفه اسحاق بار موشيه مدير الإذاعة الاسرائيلية ، وصف فيه حالة اليهود العراقيين عند وصولهم الى اسرائيل والمعاناة التى لا قوها ، والتمزق النفسي والعائلي الذين عانوا منه واللامبالاة التي جوبهوا بها والإحتقار الذي كان سمة كل من استقبلهم هناك ، فيقول كنت اتجول بين القادمين كلما سنحت لي الفرصة وابحث عن معارفي وأهلي واصدقائي ، لقد تحول الجميع الى أعزاء قوم ذلوا واستبيحوا مرتين مرة بيد حكومة العراق ومرة بيد حكومة اسرائيل التي لم تدرك خطورة ما قامت به تجاه طائفة يهودية من اعرق وأعظم الطوائف بالعالم .
" لقد تعرضنا في اسرائيل لحرب حضارية سافرة ، كان الجهل يخيم على عقل كل من قابلناه ، كان الجهل بنا وبماهيتنا هو الاهانة الكبرى التي شعرنا بها ونحن نتجول كأشباح فنرصد الأعمال ونبحث عن أمكنة سكن ملائمة او نقضي اوقاتنا في معسكرات الاستقبال او فيما يسمى بالمعابر التي اخذنا نسميها " المقابر " وظهرت للجميع مخاطر من نوع لم يحلموا به ولم يفكروا بامكانية وجوده اصلا .
كان أعظم وأشنع هذه الأخطار هو خطر انهدام وحدة العائلة ، فقد اضطر الأباء الى الاعتماد على الأبناء البالغين وخرجت النساء الى العمل القاسي وأصبح للمسافات قيمتها . تفرقت العائلات ايدي سبأ ، الشباب مجندون ، البنات والأولاد يعملون كل على مسافة من البيت او التخشيبة واما الأب . فإنه اما هبط الى الأرض يعمل فيها بالفأس بعد ان خسر تجارته ونسي مهنته القديمة واما اقعده الهول والمرض عن ذلك فاكتفى من الغنيمة بمساعدات الأبناء " .
" لقد اصبح القادمون مهاجرين مشتتين حقا وقد قدموا خاليي الوفاض من كل شيء وظهر لنا في تلك الأيام ان أحدا في اسرائيل لم يكن ينتظر ان نأتي الا هكذا ، واننا بالنسبة للجميع يجب ان نأتي هكذا ، كنا نتذكر مؤسساتنا العظيمة وآثارنا المجيدة في العراق ونحن نتبادل نظرات خرساء ، وعندما كنا نتقدم نحو الوسط الاسرائيلي الثابت الاركان بحكم كونه قد وصل قبلنا وضرب جناحيه قبلنا فقد كنا نتبادل نظرات نكراء لم يكن أحد طرفيها يفهم الطرف الآخر ".
" ان اعجب ما صعب علينا هضمه هو ان البلاد التي قدمنا اليها لم تكن تعرفنا مثلما كنا نحن نعرف انفسنا وتاريخنا ، وقد تعزز لدينا الاعتقاد وبمرور الزمن بأن الجهل لم يكن جهلاً وانما تجاهلاً مقصوداً ، وفي كل دراسة طالعناها عن يهود اوروبا الشرقية ، كنا نحمل على الاعتقاد ان هؤلاء فقط هم يهود العالم ولا مكان بينهم لليهود والمعروفي الأصل والفروع والقادمين من الشرق ، كان مؤلما ومهيبا معا ان تخلو الكتب المدرسية من تاريخنا ومن ثقافتنا ومن اسماء كتبانا ومثقفينا وحاخامينا وعلمائنا وشعرائنا ووجهائنا ، نحن الذين انتجنا في القرن الأخير فقط طائفة من أحسن كتاب العراق وقضاتها ومفكريها ، كنا نستجدي هنا اعتراف البلاد بنا فشعرنا اننا كالأيتام على مأدبة اللئام " .
" نتذكر بحزن ان حكام العراق انذاك كانوا يصفوننا بأننا يهود ، وقد تركنا العراق كيهود ووصلنا اسرائيل كعراقيين ، المنظر مأسوي ومضحك في الوقت نفسه ، فقد ساعدنا حكام العراق على تثبيت هويتنا ، وها هم اليوم أبناء ديننا وجلدتنا يساعدوننا مرة اخرى على تأكيد وتثبيت عراقيتنا ، كان الشعور مؤلما ومثيراً للحزن في آن معاً .
انتهى حديث اسحاق بار موشيه .
بعد نصف قرن هل تغير شعور اليهود العراقيين وهل تغيرت اوضاعهم وهل تغيرت النظرة اليهم ؟ لا نعتقد .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت