الشعوذة في غزة وأسباب استمرار الظاهرة

بقلم: د.علاء مطر


خرجت علينا وسائل الإعلام بخبر مفاده، إلقاء الشرطة في غزة القبض على عدد من المشعوذين, الذي تبين لاحقاً أنهم إما يعانون من اضطرابات نفسية أو شذوذ نفسي، ومن بين هؤلاء المشعوذين امرأة تمارس الشعوذة منذ خمسة عشر عاماً، وقد أكسبتها هذه المهنة ثراءً فاحشاً. كيف لا وحسب ما ذكرته وسائل الإعلام ذاتها، أنها تتقاضى أجراً من الحالة الواحدة مبلغاً من المال يتراوح مابين 500 شيكل إلى 2500 شيكل.

إن استمرار ظاهرة المشعوذين الذين يستغلون حاجة الناس، يرجع بشكل أساسي للمفاهيم الخاطئة التي يحملها الناس حول علاقة الإنس بالجن من تلبس وسحر وعمل وخلافه من المفاهيم التي تدفع الناس إلى الوقوع وبسهولة في براثن هؤلاء الدجالين، مذكراً أن طبيعة العلاقة بين الإنس والجن ليس من ثوابت العقيدة بل هناك اختلاف بين علماء المسلمين حول طبيعة هذه العلاقة والذي أميل فيها كل الميل لمن يقصرونها فقط في جانب الوسوسة، من الجن إلى الإنس لا تلبساً أو خلافه من العلاقات التي أفسدت العقول وجعلت أصحابها لقمة سائغة في يد المشعوذين.

وترجع استمرار ظاهرة الشعوذة أيضاً، إلى الوصمة التي يلصقها المجتمع بالمريض النفسي، فنظرة الاستقباح الموجودة في المجتمع للمرض النفسي كبيرة جداً للحد الذي يفضل أن يدعي الشخص بأنه "معمول له عمل" أو حتى مريض بالسرطان على أن يصاب بمثل هذا المرض، لأن ذلك يؤثر سلباً وبشكل كبير على سمعة العائلة والمصاب نفسه، مما يدفعهم بالذهاب إلى المشعوذين، الذي يعدونهم أقل وصمة من الذهاب للمعالج النفسي، بل أن العديد من ذوي المرضى النفسيين يذهبون بأبنائهم للعلاج النفسي عند المختصين بعد ما يعجز المشعوذين عن العلاج.

إن الوصمة للأسف لا تتعلق فقط بالمريض، بل تتعداه للعاملين في قطاع الصحة النفسية من المجتمع ومن العاملين أيضاً في قطاع الصحة العامة ذاته. وخير مثال على ذلك وجود نظرة سلبية من قبل المجتمع للعاملين في مجال الصحة النفسية لدرجة العزوف عن الزواج ممن يعملن في هذا المجال بشكل خاص. وعن النظرة السلبية من العاملين في الصحة العامة للعاملين في الصحة النفسية، يتضح من عزوف الأطباء عن الرغبة بالعمل في مجال الصحة النفسية، حتى أن معظم ابتعاثات وزارة الصحة للخارج هي من تخصصات غير الصحة النفسية. يضاف إلى ذلك عرقلة العاملين في المستشفيات العامة لفتح الأقسام الجديدة الخاصة بالصحة النفسية في عدد من المستشفيات العامة.

كما يعود استمرار الظاهرة، إلى عدم ثقة المواطنين بالمعالجين النفسيين، رغم تعدد وتنوع الجهات "حكومية، وكالة الغوث، أهلية، خاصة"، التي تقدم خدمات الصحة النفسية للسكان في قطاع غزة- يصل عدد المؤسسات العاملة في هذا المجال إلى أكثر من 162 مؤسسة-، إلا أن هناك عدد محدود منها فاعلة في هذا المجال وإن كانت خدماتها أيضاً محدودة ولا ترتقي للمستوى المطلوب. وفي السياق ذاته، يعاني قطاع الصحة النفسية بشكل عام من نقص كبير في الكوادر المهنية المدربة سواء على مستوى الميدان أو الدراسة الأكاديمية، حيث يوجد عجز في نسبة العاملين في مجال الصحة النفسية علاوة الضعف في المهارة العلاجية الناتج في كثير منه عن تدني الدرجة العلمية، ودخول الكثير من غير المتخصصين على خط العمل في مجال الصحة النفسية، مما ساهم ذلك بدفع المواطنين إلى اللجوء إلى المشعوذين.

هذا كله يأتي في ظل وجود العديد من التحديات التي تعيق تمتع المواطنين في قطاع غزة، بالحق في صحة نفسية سليمة. فاستمرار سياسة العقاب الجماعي التي تفرضها قوات الاحتلال الإسرائيلي تسببت في إحداث آثار كارثية على الواقع الحياتي بكل مكوناته. وقد كان لتدهور الصحة النفسية نصيب كبير من تداعيات الحصار، فتفشى ظاهرتي البطالة والفقر، والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، وعدم وجود المسكن المناسب والماء الأمن والكافي، يضاف إلى ذلك الحرمان من التنقل بحرية إلى خارج القطاع كل ذلك وغيره كثير، ساهم بتدهور الصحة النفسية لسكان القطاع، حيث تسبب في ظهور حالات جديدة من الاضطرابات النفسية وحدوث انتكاسات لحالات قديمة.

عليه وفي ظل الموروث الثقافي الخاطئ، والضعف في جودة خدمات الصحة النفسية المقدمة للمواطنين دفع باتجاه استمرار ظاهرة المشعوذين إلى وقتنا الراهن. من هنا فإننا نؤكد على ضرورة رفع مستوى الوعي المجتمعي في مجال الصحة النفسية، ونشر ثقافة الصحة النفسية وتوعية المجتمع بها وكيفية التعامل مع المرضى النفسيين واحترام كرامتهم الإنسانية وحفظ حقوقهم. ووضع خطة للقيام بالأبحاث والدراسات العلمية في مجال الصحة النفسية، ووضع برامج متكاملة لتدريب وتأهيل الممارسين للصحة النفسية من أطباء وأخصائيين نفسيين وأخصائيين اجتماعيين وممرضين وغيرهم، والقضاء على كافة صور الوصمة والتمييز ضد الأشخاص المصابين بمرض نفسي، أو تجاه العاملين في مجال الصحة النفسية.

كما نؤكد على ضرورة القضاء على ظاهرة المشعوذين، بمزيد من الملاحقة القانونية لهم وتقديمهم للعدالة للقصاص منهم وتخليص الناس من شرورهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت