دعوة فلسطينية لعدم توقيع اتفاق وضع نهائي


(اتفاق عباس وليفني على نفي وصول المفاوضات إلى "طريق مسدود" يثير مخاوف فلسطينية أكثر مما يثير التفاؤل في ضوء التجربة التاريخية للتنازلات الخطيرة التي تمخضت عنها المفاوضات السرية السابقة)


في مقال له مؤخرا، يحث وزير التخطيط الفلسطيني السابق وأستاذ العلوم السياسية بجامعة بيرزيت، د. علي الجرباوي، مفاوضي منظمة التحرير الفلسطينية على عدم التوقيع على أي اتفاق على الوضع النهائي لأنه ضمن موازين القوى الراهنة سوف يتطلب منهم التخلي عن الحقوق الوطنية ولن يكون عادلا.

ومع ذلك يدعو الجرباوي، كما كتب، إلى وجوب الاستمرار في المفاوضات إرضاء للمجتمع الدولي، لكن بالتعامل مع عملية التفاوض كتكيك لا كاستراتيجية، بهدف استغلال المفاوضات لمراكمة "مكاسب صغيرة" على الأرض مثل تحويل المزيد من الأرض والموارد إلى "السلطة الفلسطينية"، وتخفيف قيود الاحتلال على حركة الفلسطينيين، وفتح الحدود أمام صادراتهم.

والجرباوي لا ينص في مقاله على أن البديل لاتفاق على الوضع النهائي هو اتفاقيات انتقالية مؤقتة، لكن هذا هو الاستنتاج الوحيد لقوله إن المفاوضات لن تنهي الصراع، ولا يوجد أي حل تفاوضي في الأفق، ولا أي دولة فلسطينية مرئية تنبثق عنها في المستقبل القريب، وهو الاستنتاج من دعوته في هذه الأثناء إلى انتزاع المزيد من "المكاسب الصغيرة" على الأرض عبر الاستمرار في التفاوض "التكتيكي".

وخلاصة المقال تنسجم مع دعوة الاحتلال ودولته ومفاوضيه إلى حل انتقالي مؤقت طويل الأمد، يكرر تجربة اتفاقيات أوسلو الانتقالية ويطيل أمدها بقدر ما يطيل في عمر "السلطة الفلسطينية" التي ولدت من رحمها وتمثل تجسيدا لها، كما كتب الجرباوي، ملاحظا الانفصام السياسي لدى بعض معارضي هذه الاتفاقيات الذين يعارضونها لكنهم لا يعارضون السلطة الفلسطينية المنبثقة عنها ولا يطالبون بتفكيكها.

كما يتفق مع الجرباوي في خلاصة مقاله رمز تاريخي لما تعتبره مدرسة المفاوضات في منظمة التحرير "معسكر سلام إسرائيلي"، مثل يوسي بيلين، شريك قيادات في المنظمة في "تحالف السلام" وفي "مبادرة جنيف"، الذي قال في الثلاثين من تموز/ يوليو الماضي إن فرص التوصل إلى اتفاق سلام دائم حاليا ضئيلة للغاية ومتدنية "جدا جدا" بل إنها "مستحيلة تقريبا"، ليخلص إلى الاستنتاج بأن التوصل إلى "اتفاق انتقالي" يؤسس ل"دولة فلسطينية مؤقتة في بعض أجزاء الضفة الغربية" لا يعد أمرا "غير واقعي" الآن.

وربما لهذا السبب، اختارت النيويورك تايمز الأميركية يوم الثلاثاء الماضي ان تنشر مقال الجرباوي مترجما، ولأن رؤيته تمثل قمة جبل جليد لمدرسة سياسية تعتمد المفاوضات تكتيكا واستراتيجية فلسطينية واحدو وحيدة قادت النضال الوطني الفلسطيني إلى ما آل إليه من شلل وانقسام وتشرذم يلهث عاجزا وراء ما وصفه الجرباوي نفسه في مقاله بالتمني والأوهام والخيال الذي يمني المفاوض بسراب أن مفاوضاته يمكنها حقا أن تقود خلال تسعة شهور إلى اتفاق على الوضع النهائي ينهي صراعا عمره عقود من الزمن، كما قال.

وإنها لمفارقة مضحكة مبكية أن يعلن وزير الحرب في دولة الاحتلال، داني دانون، معارضته حتى لاتفاق انتقالي لأنه في رأيه يتضمن "تنازلا" عن بعض "أرض إسرائيل"، على ذمة الجروزالم بوست في السابع عشر من الشهر الجاري.

والرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يفوت فرصة ليكرر تأكيد رفضه لأي اتفاق انتقالي مؤقت، وقد جدد مؤخرا رفضه في سياق المفاوضات التي استؤنفت أواخر تموز/ يوليو الماضي، التي يؤكد وسيطها الأميركي واللجنة الدولية "الرباعية" الراعية لها وكذلك رئيسة وفد دولة الاحتلال المفاوض فيها، تسيبي ليفني، أن هدفها هو التوصل إلى اتفاق على الوضع النهائي لأنه "لن يكون هناك اتفاق على أي شيء ما لم يكن هناك اتفاق على كل شيء" كما نسبت الجروزالم بوست العبرية لليفني القول في الثالث من الشهر الجاري.

لكن المدرسة الفلسطينية للمفاوضات، استراتيجية كانت أم تكتيكا، كانت ولا تزال هي المدخل للمزيد من تآكل الحقوق الوطنية وتجزئتها وتأجيلها، ولتقديم المزيد من التنازلات.

فبعد أن تنازل الرئيس عباس عن مطالبته بوقف أو تجميد الاستعمار الاستيطاني كشرط مسبق معلن لاستئناف المفاوضات، أعلن في ألمانيا يوم الثلاثاء الماضي عن استعداده للقاء رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في سياق المفاوضات الجارية، وأعلن في ليتوانيا بعد ذلك أنه سيقبل بدولة فلسطينية "منزوعة السلاح" مع وجود "قوي" للشرطة حسب اتفاقيات أوسلو الموقعة كما قال، وسط تلميحات من مفاوضيه إلى امكانية تمديد مدة التسعة شهور المعلنة كسقف زمني للمفاوضات الجارية، ووسط تقارير عن اقتراح حل وسط أميركي لا يخرج في جوهره عن كونه إطارا لحل انتقالي جديد يكرر تجربة اتفاقيات أوسلو المرحلية.

إن اتفاق عباس وليفني على نفي التقارير التي تحدثت الأسبوع الماضي عن وصول المفاوضات إلى "طريق مسدود" يثير مخاوف فلسطينية أكثر مما يثير التفاؤل في ضوء التجربة التاريخية للتنازلات الخطيرة التي تمخضت عنها المفاوضات السرية السابقة، فمعظم الشعب الفلسطيني المعارض لهذه المفاوضات يخشى نجاحها أكثر مما يخشى فشلها.

يوحي مفاوض المنظمة لشعبه بوجود "معسكر سلام" في دولة الاحتلال وبأن نتنياهو "يميني" و"متطرف" انقلب على إرث سلفه أسحق رابين "شريك" المنظمة "المسالم" في توقيع "إعلان المبادئ" (اتفاق أوسلو) عام 1993 و"اتفاق القاهرة" في العام التالي و"الاتفاق الانتقالي" عام 1995 الذي اغتيل فيه رابين، وأن نتنياهو يسعى في ولايته الثالثة إلى إستكمال عملية إجهاض "اتفاق أوسلو" التي بدأها في ولايته الأولى عند انتخابه لأول مرة عام 1996 على أساس برنامج سياسي معارض لذلك الاتفاق.

لكن المقارنة بين ما يطالب به نتنياهو في المفاوضات الجارية وبين المحددات التي أرساها رابين ل"عملية السلام" مع المنظمة لا تترك مجالا لأي شك في أن نتنياهو "الليكودي" إنما يكمل خطة زعيم حزب العمل الراحل رابين ولا ينقلب عليها، وأنه لا فرق بين الحزبين حولها، ولا وجود لأي "معسكر سلام" يخرج عليها.

فعلى سبيل المثال، في خطابه لإقناع الكنيست بالموافقة على الاتفاق الانتقالي في الخامس من مثل هذا الشهر عام 1995، عرض رابين رؤيته ل"الحل الدائم"، فقال إن الاتفاق يتضمن حلا تكون فيه القدس "موحدة تحت السيادة الإسرائيلية" وتضم مستعمرات "معاليه أدوميم وجفعات زئيف ... وغوش عتصيون وإفرات وبيتار وغيرها" التي يقع "معظمها شرقي الخط الأخضر"، وحدودا لأمن دولة الاحتلال على نهر الأردن، ولا يسمح بعودة إلى خطوط الرابع من حزيران عام 1967، ويتيح بناء كتل استيطانية في "يهودا والسامرة" وقطاع غزة، وأن هدفه في أي حل دائم سوف يكون الاعتراف ب"دولة إسرائيل كدولة يهودية ... إلى جانب كيان فلسطيني ... يكون أقل من دولة".

أليست هذه هي ذاتها مطالب نتنياهو الحالية، فما هو الجديد في مطالبه الذي يختلف عن المحددات التي رسمها رابين، "شريك" منظمة التحرير في "السلام"؟!

وبينما تتعالى اليوم صرخات الاستغاثة الوطنية الفلسطينية لإنقاذ المسجد الأقصى من مصير الحرم الإبراهيمي في الخليل الذي قسمه الاحتلال مكانا وزمانا بين المسلمين وبين اليهود، يستذكر المراقب ما قاله رابين في خطابه ذاك عن موافقة مفاوض المنظمة بتوقيعه على الاتفاق الانتقالي لسنة 1995 على الترتيبات الأمنية الواردة فيه، وبخاصة بشأن الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح (قبر راحيل) في بيت لحم وقبر يوسف في نابلس وغيرها من المقدسات العربية الإسلامية.

إن سياق المسيرة التاريخية للرئيس عباس يجعل من حقه على دولة الاحتلال أن تكون أول من يرشحه لنيل جائزة نوبل للسلام.

فهو "أبو" فكرة وجود "معسكر سلام" فيها، وهو أول من أقام اتصالات مع "حمائمها" المفترضين، وهو رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير منذ عام 1994، وهو الذي نسق عملية التفاوض خلال مؤتمر مدريد عام 1991، وهو مهندس اتفاق أوسلو الأول بعد ذلك بعامين ورئيس مفاوضاته السرية، وهو الذي وقع على "إعلان المبادئ" المنبثق عنه في واشنطن عام 1993، وهو الذي وقع الاتفاق الانتقالي بعد ذلك بسنتين، وهو الذي أسقط "البندقية" التي كان الراحل ياسر عرفات يحملها في يد ويحمل غصن الزيتون في اليد الأخرى، وهو الذي يقود المفاوضات حتى الآن "بيد واحدة".

وهذه مسيرة "سلمية" طويلة تكاد تجعل الرئيس عباس هو العنوان الأول لمسيرة ما يزيد على أربعين سنة من تاريخ القضية الفلسطينية ارتبطت رمزيا بالرئيس الراحل عرفات.

لكن سياق هذه المسيرة بقيادته الفعلية لا بقيادتها الرمزية شهد التنازل عن ثلثي الوطن التاريخي لعرب فلسطين، كما اعترف عباس في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، وشهد التنازل عن حدود الدولتين كما رسمها قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947، وشهد القبول بمبدأ "تبادل الأراضي" للتنازل عن "خطوط" الرابع من حزيران / يونيو 1967 في القدس بخاصة، وشهد التنازل عن الشرعية الدولية كما وردت في قرارات الأمم المتحدة بإعلان شرقي القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة خلافا لوضع المدينة المقدسة كما نص عليه قرار التقسيم، إلخ.، بحيث لم تعد توجد أي ثقة وطنية في أن هذه المسيرة المستمرة لن تقود إلى المزيد من التنازلات الوطنية.

 

بقلم/ نقولا ناصر
* كاتب عربي من فلسطين
* [email protected]