نعترف أن معسكر المقاومة أو الممانعة وفق التصنيف القديم الذي كان متبعاً بين دول الاعتدال والممانعة، بات يعيش مأزقاً حقيقياً، ويواجه أزماتٍ مصيرية، ويتلقى ضرباتٍ شديدةٍ وموجعة، ويتهدده خطر الإسقاط أو الاحتواء، وربما الهزيمة والانكسار، وقد بدأت ملامح الضعف تظهر عليه، وبانت أمارات التأثر على أطرافه، فقد أصابته هناتٌ وأزماتٌ، ولحقت به خسائرٌ ونكسات، طالت بآثارها عصب مشروعه، ولامست أركان مقاومته، وهددت مستقبل وجوده، ومصير أتباعه وتياره.
فبعد أن أخذته نشوة الانتصار والتفوق بعد سقوط أنظمة الاستبداد، ورحيل رموز التبعية والفساد، ونجاح الشعوب في فرض إرادتها، وبسط سلطتها، وإظهار هيمنتها، انقلبت الأحوال وتغير اتجاه الرياح، وأخذ معسكر الممانعة فجأةً يتلقى ضرباتٍ موجعة، أضرت به، وألحقت به خسائر فادحة، انعكست على مناحي كثيرة من مهامه ووظائفه.
فقد خسر دولاً كانت تسانده، وفقد شعوباً كانت تقاتل معه، وبات يعاني من عزلةٍ سياسية، ومن حصارٍ معادي، وانعزالٍ جغرافي، فضلاً عن أزماتٍ مالية، ضربت المنابع وجففت بعضها، واستهدفت الطرق والوسائل، فقطعت طرق الإمداد والتواصل، واعتقلت الممولين والموصلين والتجار والوسطاء والكثير من الذين يعملون في قطاع الإمداد المالي.
أما السلاح ومعدات القتال ووسائل الصمود والثبات، التي هي عصب المقاومة وروحها، وأساسها الراسخ الذي تقوم عليه، فقد تعرضت للضرر، وأصاب طريقها العطب، فخافت دولٌ كانت ممراً، وقطعت أخرى الطريق وقد كانت المعبر، واشتعلت النار في بلادٍ كانت تعتبر مستودعاً للذخيرة، وثكنةً للسلاح، ومعسكراً للتدريب والتأهيل، وبات قطاع التسليح في خطر، وشعرت المقاومة بالقلق، فهي وإن كانت تمتلك الكثير من السلاح، وقد أصبحت تصنع وتطور بعضه بنفسها، إلا أنها لا تستغني عن المدد الخارجي، ولا تستطيع الاكتفاء بما تنتجه وحدها، وإنما يلزمها النصير والسند، والمزود والممول، والداعم الاستراتيجي القوي.
وفي الجانب الآخر استعاد معسكر الاعتدال رباطة جأشه، بعد أن استفاق من الضربات التي تعرض لها نتيجة ثورات الربيع العربي، التي أطاحت بأنظمته، وهزت عروش واستقرار أخرى، وهددت القديم منها بالتهاوي، والقوي منها بالسقوط، فقد استعاد هذا المعسكر عافيته، وعاد إلى مواقعه، وأمسك من جديد بدفة القيادة، وعاد ليقود معركة المواجهة والتحدي، ولكن بروحٍ انتقامية، ورغبةٍ قويةٍ في الثأر ورد الاعتبار، واستعادة المواقع المفقودة، والعواصم المسلوبة.
سخر معسكر الاعتدال لأهدافه كل ما يملك، وجند في صفوفه كل من عرف أنه قادر، واستفاد من كل صاحب خبرةٍ وتجربة، واستدعى المتضررين والناقمين والحاقدين والكارهين والموتورين، وكل من له ثأرٌ قديم، أو مصلحة متضررة، وشكلوا معاً جبهةً واحدة، وغدوا صفاً واحداً في مواجهة الثائرين الجدد، وفي التصدي لمعسكر الممانعة القديم، ليسقطوا حصونه القائمة، ويستردوا منه المواقع التي سيطر عليها، وأصبح قائداً فيها، أو تلك التي كان له نفوذاً ووجوداً قوياً فيها.
هنيئاً لمعسكر الاعتدال قدرته على التعافي، ونجاحه في الاستفاقة من الضربات التي تلقاها، وانتقاله من مربع الدفاع إلى الهجوم، ومن تلقي الضربات أو صدها، إلى توجيهها وردها، وحق له أن ينجح وهو الذي استطاع أن يلم شعثه، وأن يجمع صفه، وأن يستدعي كل المتضررين، وأن يستفيد من كل القادرين، ويستشير كل الخبراء السابقين، ليضع الخطط العكسية، ويعد للهجمات المضادة، فلا نعيب عليه حربه على المقاومة، ولا ننتقد قدرته على استعادة قدرته، ولا نحسده على الانتصارات التي حققها، والأهداف التي أنجزها، والمواقع التي استعادها، والضربات الموجعة التي وجهها.
إنما نعيب على معسكر الممانعة، وأطراف المقاومة، دولاً وجماعاتٍ، وأحزاباً وتنظيماتٍ، كيف أنها لم تدرك أنها تواجه هجمةً مضادة، وأنها تتلقى ضرباتٍ قاتلة، ولم تجتمع لتناقش، ولم تلتق لتنسق، وبقيت تتلقى الضربات فرادى، وتواجه الطعنات وحدها، وقد كان حرياً بها أن تتداعى منذ زمنٍ إلى لقاءٍ جامع، تراجع فيه مواقفها، وتعيد النظر في استراتيجيتها، وتدرس خياراتها الممكنة، وتتعرف على امكانيات الصمود، واحتمالات المواجهة، وتنسق جهودها لصد المعسكر الآخر، وهو المدعوم أمريكياً وغربياً، حيث يستقوي معسكر الاعتدال بهم، ويهدد بقدراتهم، ويضرب بسلاحهم، ويتوعد المعارضين على لسانهم بمصيرٍ أسود، وعاقبةٍ وخيمة.
إن مسؤولية معسكر الممانعة كبيرة، ومهمته شاقة، وواجبه مقدس، وعليهم أن يتداعوا إلى لقاءٍ جامعٍ ومنظم، يشارك فيه الجميع بلا استثناء، ويتقدم فيه الكل بالرأي والفكرة، شرط أن ينسى كل طرفٍ حساباته الخاصة، ومنطلقاته الحزبية أو التنظيمية أو الطائفية، وأن يتحدوا جميعاً بموقفٍ واحدٍ، ورؤية مشتركة، لمواجهة الثور الهائج المجروح، وإلا فإن أطراف الممانعة سيسقطون واحداً تلو الآخر، وسيصدق فيهم المثل القائل، أكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
إن الحلف الآخر الذي ارتضى أمريكا والغرب شريكاً، لا يعرف في المعركة محرماً، ولا يستبعد من تحالفه عدواً، ولا يراعي في خصومته أهلاً ولا أمة، وهو يهدف إلى تقويض معسكر المقاومة واسقاطه، وسوق بقية الأمة إلى حظيرة الشرعية الدولية، التي تعني بوضوح، اعترافاً بإسرائيل، وتطبيعاً للعلاقاتِ معها، واتفاقاً مع المجتمع الدولي، وقبولاً بحلوله ومقترحاته، ولو كانت تهويداً للقدس، واسقاطاً لحق العودة، ونسياناً لأحلام الدولة والوطن والسيادة.
إن مسؤولية اللقاء والتنسيق المشترك، واجبٌ ملقى على جبين أطراف المقاومة العربية والإسلامية، يجب أن يعجلوا القيام به، ولن يغفر لهم التاريخ، ولن تسامحهم الأمة، إن هم قصروا أو تأخروا عن القيام بواجبهم، أو جبنوا وتراجعوا عن التصدي له، منشغلين بخصوصياتهم، ومهمومين بحساباتهم، ومنغمسين في أخطائهم، وسادرين في انحرافاتهم، وغير مبالين بأمل الأمة، وحلم الشعوب، ذلك أن المقاومة إن سقطت هذه المرة رايتها، وهوت أعلامها، وسكنت بنادقها، وضربت منصات صواريخها، فإنها لن تقوم من جديد، ولن ترتفع لها راية، وليعلموا يقيناً أنه إن هلكت هذه العصبة المقاتلة، وهذه الفرقة المجاهدة، فلن تكون في الأرض بعد اليوم مقاومة.
[email protected] بيروت في 27/11/2013