في الذكرى الثالثة لرحيل عبد الله الحوراني "أبو منيف"

يصادف اليوم، الجمعة 29 تشرين الثاني-الذكرى الثالثة لرحيل أحد أصدقائي الأوفياء، والمناضل الوطني والقومي الكبير عبد الله عبد الهادي الحوراني (أبو منيف). كما يصادف هذا اليوم صدور القرار الأممي رقم "194" القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شردوا منها، هذه العودة التي قضيت معظم عمرك مناضلاً من أجل تحقيقها، وفي هذا التاريخ أيضاً أحرز شعبنا الفلسطيني انتصاراً في هيئة الأمم المتحدة بحصوله على دولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وفي هذه الذكرى المتجددة الحزينة أتذكر منذ كنّا صبيين، وحتى أخذ الشيب مأخذه في رأسينا، وهو أصغر مني سنّاً ، وقد حدثني عن رحلة حياته الشّاقة منذ طفولته في المسمية الصغيرة، وكيف اندلعت المعارك بين الفلسطينيين والصهاينة إثر قرار التقسيم الدولي عام 1947، واحتلال قريته (المسمية)، وتشرّد هو وعائلته وعمره اثنتا عشرة سنة إلى قرية (عراق سويدان) ومنها توجهت النساء والأطفال وهو معهم شرقاً إلى مخيم (عقبة جبر) في أريحا، وبقي والده ووالدته في قرية (عراق سويدان) التي سرعان ما سقطت في أيدي الصهاينة، فتوجّه سكانها ووالده ووالدته إلى بلدة (الفالوجة)، ثم انسحبوا منها إلى قطاع غزة، وبقي عبد الله في مخيم (عقبة جبر) ومنه غادر هو وآخرون لاحقاً إلى قرية (دورا-الخليل) بهدف التسلل منها غرباً في الليل إلى قطاع غزة مشياً على الأقدام، وهم معرضون لهجمات الضباع المنتشرة في تلك المناطق، أو للقتل  من قبل العصابات الإسرائيلية والمستوطنين حتى وصلوا إلى قرية (بيت حانون) والتأم الشمل في مدينة غزة، حيث أكمل دراسته الإعدادية والثانوية، وانتسب لجامعة عين شمس في القاهرة وأنهى السنة الثالثة، ثم عُيّن معلماً ومديراً لمدرسة خانيونس الإعدادية للبنين التابعة لوكالة الغوث الدولية (الأونروا)، وسُمّيت هذه المدرسة باسم مدرسة (الحوراني)، وتزوج من ابنة عمّه (أم منيف) التي كنت أعرفها وهي فتاة بحكم إقامة عائلتها في (المنطار) شرق حيّ الشجاعية، وتعرفتُ بوالدها ووالدتها وأخويها: إبراهيم، ومعين الذي انتمى لحزبنا الشيوعي. 

لقد بدأت تجربة عبد الله النضالية بالانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي في منتصف الخمسينيات، وشارك بنشاط ضدّ مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء الذي أسقطته هبّة آذار/مارس عام 1955، بقيادة الشيوعيين، كما ناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة إبّان العدوان الثلاثي عام 1956، حيث اُعتقل ثم أفرج عنه بعد رحيل الاحتلال الإسرائيلي في 7/3/1957. وفي 13/9/1963 أُبعد من قطاع غزة بسبب نشاطه السياسي بعد اختلاف جمال عبد الناصر مع حزب البعث، فسافر إلى (دبي) حيث عمل مدرّساً هناك، ثم أُبعد منها أيضاً لنشاطه السياسي، فاستقبلته دمشق، وعُيّن مديراً لإذاعة فلسطين، ثم مديراً لهيئة التلفزيون السوري، ثم مديراً عاماً لمعهد الإعلام في سورية.  وفي عام 1969 أصبح عضواً في المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتبوأ لاحقاً موقع عضو اللجنة التنفيذية فيها، وهو الذي أسس (فرقة العاشقين) الشهيرة.

وفي 24/01/1969 سافرت مع الرفيقة (رضا) من عمان إلى دمشق تلبية لدعوة من الرفيق يوسف الفيصل نائب الأمين العام للحزب الشيوعي السوري لحضور مؤتمر المنظمة النسوية للحزب الشيوعي السوري الذي انعقد في 26/1/1969 في دمشق، وقد غادرنا عمان برفقة العميد جواد عبد الرحيم في سيارته العسكرية، ونزلنا ضيوفاً في منزل الصديق العزيز عبد الله الحوراني، حيث استقبلتنا والدته وأولاده بحفاوة وحب نابع من القلب، وعندما عاد عبد الله وأم منيف إلى البيت رحبا بنا وسعدا بزيارتنا، ومكثنا في بيتهم حتى انتهى المؤتمر، حيث ألقت فيه رفيقتي (رضا) مداخلة عن نضالها ونضالات رفيقاتنا في الحزب الشيوعي والجبهة الوطنية المتحدة، فكرّمها المؤتمر بمحنها وساماً تقديراً لنضالها ونضال رفيقاتها، ونضال المرأة الفلسطينية من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.

لقد اهتم عبد الله الحوراني اهتماماً بالغاً بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية فكرياً وسياسياً، وأقام علاقات وطيدة وحميمة مع البلدان الاشتراكية، والأحزاب التقدمية والشيوعية العربية والعالمية، ومع الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في إسرائيل، وساهم بدور فعال في توفير المنح الدراسية للعديد من الطلبة الفلسطينيين في الدول الاشتراكية، ونشط في مجال الكتابة الملتزمة، وإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات والمؤتمرات، وله مؤلفات عدّة أهداني إياها جميعها، كما أسّس المركز القومي للدراسات والتوثيق في غزة الذي صدر عنه كتب عدة هامة. وبعد رحيله سمّي المركز باسمه، كما وشارك الحوراني في تأسيس تجمّع شعبي للدفاع عن حق العودة، وكان المنسق العام لهذا التجمّع.  

عبد الله الحوراني (أبو منيف)  هو أحد أبناء ورجالات النكبة الذين واجه كلٌّ منهم، وبأسلوبه الخاص ورؤيته الخاصة، عذابات التطهير العرقي والتهجير القسري ومآسي المنفى والتشرد والقهر والفقر، ولكنهم اجترحوا بنضالهم المعجزات، وقهر الصعاب، وكانوا جيلاً من الطلائع، وإنْ اختلفت المشارب والرؤى الفكرية والسياسية أحياناً، فقد كانت تجاربهم النضالية تُكمل بعضها بعضاً، وقد لعب عبد الله دوراً متميزاً في تربية أجيال من الفلسطينيين المناضلين، وفي نشوء حركة التحرر الوطني الفلسطينية لصالح قضيتنا الوطنية.

وعلى الرغم من أنني كنتُ منتمياً للحزب الشيوعي، وعبد الله لحزب البعث، إلا أن علاقاتنا الأخوية والصداقة بيننا وبين أسرتينا التي امتدت سنوات طويلة في قطاع غزة وفي المنافي ما زالت مثالاً يُحتذى به من أبنائنا وأجيالنا اللاحقة.

وعندما عاد عبد الله (أبو منيف) إلى مدينة غزة برفقة الأخ ياسر عرفات في 13/9/1994، وكنتُ قد سبقته في العودة إلى الوطن بعد تشرد في المنفى دام ستاً وعشرين سنة، أقمت له يوم 18/9/1994، احتفالاً ومهرجاناً حاشداً كضيف عزيز في مخيم النصيرات، وفي المكان نفسه الذي أقيم فيه احتفالٌ بمناسبة عودتي إلى أرض الوطن.

 

وفي 29/11/2010 توقف قلب (أبو منيف) عن الخفقان، ودُفن في عمان، فحزنت لدفنه هناك، فأحباؤه وتلاميذه في قطاع غزة كانوا ينتظرون عودته إليهم ليزورا قبره ويقدّموا باقات ورودهم ونسمات من خفقات قلوبهم.

 

وقد رثيته في قصيدة طويلة بعنوان: (نجمٌ رحل). أقتبس منها هذه الأبيات:

 

أبا منيفٍ سلاماً بالنّدى اختضبا

وفوق رمسك أبكى الصحبَ وانتحبا

بَزغتَ نجماً من المسمية انطلقا

وزيتَ مِسرجةٍ من قــلبك انسكـــبا

تُضيءُ أفئدةً في الغربة انتفضت

لتُطــفئَ الحــزنَ والآلام والـتعـــبا

وكنتَ منبع عشقٍ سالَ منهمراً

ما جفًّ جدولهُ يــــوماً وما نضـبـا

أبا منيفٍ رحلتَ اليومَ مبتهــجاً

فشعبنا أبـــداً ما هانَ أو رهـــــِبا

أشعلتَ في دمه بركان عودته

إلى الديار التــي غذَّتْــهُ فانــتسبا

أبا منيفٍ قضيتَ العمرَ مجتهداً

وأنت لا تبتغي جــاهاً ولا حــسبا

نمْ هانئاً في رياض الخلدِ وارفةً

يرّفُ فيها سلامٌ بالنوى اختضبا

 

فإلى الأخت أم منيف وأبنائها الأعزاء: منيف وعمرو ومعتز وخالد تعازينا الحارة، وأقول لهم: "إن ذكرى والدكم العطرة ستظل تلهمكم الصبر والسلوان والتوفيق، وتحفزكم على المثابرة ومتابعة السير على طريق والدكم المشرق".

 

عبد الرحمن عوض الله

29 /11/ 2103