النار عندما تلتهم اللاجئين السوريين

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

إنه ليس عنواناً للفت الأنظار، وجذب انتباه القراء والمهتمين، وإثارة الرأي العام، أو تأجيج المشاعر والأحاسيس، أو هو للتوظيف السياسي والإعلامي، أو هو محاولة للتحريض والتعريض، بل هي حادثةٌ حقيقيةٌ أشهدُ عليها، فقد التهمت النيرانُ أمام أنظارنا طفلةً سوريةً صغيرة، كانت تسكن وأهلها ملجأً في بيروت، تماماً في المبنى المقابل للبناية التي أسكن فيها، وقد شاهدتُ وأسرتي، بعد أن شعرنا برائحةٍ غريبة، أشبه برائحة احتراقِ أسلاكٍ كهربائية، فما إن نظرنا من شرفة البيت الذي نسكنه، حتى رأينا ألسنة النيران المشتعلة، وسحائب الدخان الأسود الكثيف، تنبعث من جوف المستودع الذي تسكنه عائلةٌ سوريةٌ، ارتضت أن تعيش في قبوٍ رطبٍ تحت الأرض، تحتمي به من البرد والمطر، وتستر به نفسها، وقبل أن يتجمهر الجيران، ويستدعوا سيارات الدفاع المدني اللبنانية، كانت سحائب الدخان الأسود تزدادُ كثافةً، وألسنة النيران في جوف المستودع تتقد وتشتعل، في إشارةٍ إلى عظم النار، وشدة الحريق.
دقائق طويلة مرت، قبل أن تتمكن خمس سيارات إطفاءٍ كبيرة، وعشراتٌ من رجال الدفاع المدني، من استخراج القاطنين السوريين واحداً تلو الآخر، الذين كانوا في حالةٍ سيئة، وقد استنشقوا كمياتٍ كبيرة من الدخان، الذي كان يتصاعد بلا توقف، خاصةً وأن القبو كان مستودعاً لموادٍ اسفنجية، ومعملاً للأثات، فضلاً عن وجود موادٍ قابلة للإشتعال، مما يستخدم في معامل الاسفنج، فكانت وجوههم زرقاء، وعيونهم مغمضة، وبعض زبدٍ أسودٍ على شفاههم، ولكنهم خرجوا من تحت ألسنة اللهب أحياء.
وكان من بينهم امرأةٌ، هي الأم لا ريب، كانت بين الوعي والإغماء، وبين الإدراك والاضطراب، ولكن من بين سكرات الموت البادي على وجهها، لم تنس أولادها، ولم تتخل عن فلذات كبدها، فكانت تصدر أصواتاً مبهمة، فهم المحيطون بها أن في القبو ما زالت طفلةٌ صغيرة، لما تخرج بعد.
نُقلت الأم وبقية المصابين وهم أطفالها بسيارةِ إسعافٍ تابعةٍ للدفاع المدني اللبناني إلى أحد المشافي، وما زال الناس يتجمهرون في المكان، ويحيطون بسيارات المطافئ، وينتظرون بفارغ الصبر متى يخرج المنقذون والمسعفون من قعر القبو، ليعلنوا انتهاء الحريق، لكن المتجمهرين في المكان كانوا يتساءلون، هل بقي أحدٌ في المبنى، أم خرج الجميع منه أحياءً، وإن كانوا مصابين بسبب النار والدخان، وبينما هم في جدالهم يخمنون ويخرصون، وفي انتظارهم قلقون وخائفون، فإذا برجال المطافئ يُخرجون على محفةٍ محمولة، بقايا جسدٍ ملفوفٍ بملاءةٍ بيضاء، فقد كان الجسدُ للطفلةِ السوريةِ الصغيرة، التي بقيت وحدها في القبو، ولم يتمكن أحدٌ من الوصول إليها، إلا بعد أن نالت النيران من جسدها، وأكلت من لحمها، ولم تبق منه إلا القليل الذي يدل عليها.
إنها واحدةٌ من مئات الحوادث الأليمة، التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في شتاتهم ولجوئهم بعيداً عن وطنهم، فقد أصابهم الكثير، وحلت بهم المصائب والنكبات، فمن نجا منهم من القصف والموت في بلاده، فقد أدركته قذيفةٌ وهو في الطريق إلى اللجوء فقتلته، فمات غريباً عن بلده، وبعيداً عن أهله.
وآخرون قتلوا نتيجة انهيار مبنى، وغيرهم كانوا في المكان الذي انفجرت فيه عبوة، وبعضهم آثر الهجرة والرحيل، فالتقمه البحر وأغرقه، ومن نجا من الغرق، فقد أصابه رصاص خفر السواحل العرب، فمن قُتلَ دُفنَ، ومن بقي على قيد الحياة سيق إلى السجون ومراكز التوقيف، ليدفع فيها ثمن لجوئه، وضريبة ثورته، ويؤدي بقية عمره فاتورة مغامرته بحثاً عن الكرامة وعزة النفس.
مسكينٌ أيها السوريُ، فقد ضاقت بك الدنيا بما رحبت، وقد كانت بلادك رحبةً واسعة، تفتح أبوابها وتستقبل كل الناس، وتبش في وجوه من قصدوها، تكرم الضيف، وتأوي الغريب، وتسكن الوافد، وتحن على الضعيف، وتواسي المريض، وتداوي الجريح، وتقف مع كل صاحب قضية، وتساند أصحاب الحق، وتناصر المستضعفين في الأرض، فما كان فيها عربيٌ غريب، بقدر ما كان يرى في الشام أنها بلاده، وسكانها أهله وأحبابه.
السوريُ الذي اعتاد أن يكون نصيراً لإخوانه، وعوناً لأشقائه، يدخلهم بيته، ويقاسمهم طعامه، ويعطيهم من أثاثه وبعض فراشه، ويتعامل برفقٍ مع الوافدين إلى بلاده، فلا يضامون عندهم، ولا يظلمون بينهم، ولا يشعرون بفاقةٍ أو فقرٍ وحاجةٍ وهم في بلاد الشام، التي كان وطناً لكل عربي، لكن اللاجئ السوري أصبح اليوم بين العرب يعاني، وفي بلاد المسلمين يقاسي، فقد أغلق الكثير من العرب أبوابه في وجوههم، ومنع دخولهم، وضيق عليهم، وحرمهم من كل وسيلةٍ للعيش الكريم، ومنهم من استغل حاجتهم، وابتزهم في ظروفهم، ودفعهم إلى ما لا يقبله الحر، وإلى ما لا يرضاه الكريم.
أكتبُ هذه الكلماتٍ بكلٍ حرقةٍ وأسى، وأشتم بين الحين والآخر أصابع يدي التي لم تغادرها رائحة الدخان، وأدس أنفي في ثيابي فأراها مسكونةً بكثيرٍ من آثار الحريق الدامي، الذي اختلط برائحة شواء جسد الطفلة الصغيرة، فلا أستطيع أن أنسى حال الشعب السوري، ولا أغض الطرف عن معاناته التي زادت في أيام الشتاء، وتعاظمت في ظل البرد، فأرفع يدي قبلة السماء، ضارعاً إلى الله سبحانه وتعالى، أن يرفع عنا الغمة، ويزيل عنا هذه المحنة، فقد أصابنا ما لا نحتمل، وحل بنا ما لا نقوى على الصبر عليه، فعجل اللهم لنا بالفرج، علَّ الجراح تبرأ، والنفوس تهدأ، والعيون يجف دمعها، ويعود إليها بريق أملها.


[email protected] بيروت في 6/12/2013