قلتُ لصديقي الخليجي الذي أقدره وأحترم عقله، وأجلُ حبه لفلسطين وأهلها، وتضحيته في سبيلها ومن أجلها، وهو الذي لا يترك حدثاً فلسطينياً، أو مناسبة وطنية، إلا ويكون له فيها رأي أو مشاركة، مساهمة أو إضافة.
قلتُ له أتعرفُ أن أحلام الفلسطينيين في غزة تكاد تكون واحدةً، إذ يتشابهون فيها جميعاً، ويحلمون بها دائماً.
قال لي: وما هي أحلامهم؟
التفتُ إليه، وبدأتُ أسرد عليه أحلامَ أهلي، وأماني شعبي، وخيالاتِ الصغار والكبار، وأمنياتِ الآباء والأمهات، وحاولتُ ألا أنسى شيئاً من أحلامهم التي أعرف.
قلتُ أحلامهم يا صديقي، وظيفةٌ وعمل، وراتبٌ دائمٌ مستقر، يكفي لتغطية نفقات الحياة، والمساعدة في سداد الديون، والتخلص من قائمة الاحتياجات، وبيتٌ للزواج، ووفرةٌ في الحاجات الضرورية، واكتفاءٌ في الوقود، واستمرارُ التيار الكهربائي، ونظافةٌ للشوارع، ورصفٌ للطرقات، وإنارةٌ لها في الليل، واصلاح المعطوب منها، وتعبيد ما لم يعبدُ بعدُ.
وبعضهم يحلم في تنظيف الجدران، وشطب الشعارات المكتوبة والمرسومة، وإزالة الصور الملصقة عليها، وإعادة طلائها، وتحسين مظهرها، بل ومعاقبة من يشوهها ويكتب عليها، أو يلصق أو يرسم عليها.
ويكملون أحلامهم في شوارع نظيفة، وتجمعاتٍ للقمامة معروفة، فلا أحد يلقي القمامة في الشارع، ولا من يقذفها من شرفة بيته، أو يضعها على قارعة الطريق، أو يرمي بها في الشوارع من نوافذ السيارات وهي مسرعة، ولا يبالي إن أصابت عابراً أو وقعت على سيارةٍ أخرى، أو تسببت في حادثٍ أو انزلاق.
وآخرون يحلمون في حركة سيرٍ منظمة، ومواصلاتٍ منتظمة، وسائقين محترمين، وقيادةٍ مهذبة، تكون فعلاً ذوقٌ وفنٌ وأخلاق، فلا سرعة ولا تشحيط، ولا تفحيط ولا تزمير، ولا محاولات للسباق ولا تجاوزاتٍ للقانون، يحترمُ السائقون بعضهم، ويعطون الأولوية القانونية لغيرهم، ولا يعتدون ولا يتجاوزن ولا يخالفون.
وكلهم يأمل في تطهير المؤسسات من السرقة والفساد، ومحاسبة المخالفين والمتجاوزين، ومعاقبة المستغلين والخائنين، تمهيداً لإصلاح الإدارة العامة، لتطال مختلف جوانب الحياة، المؤسسات السياسية والأمنية والقضائية والتعليمية والمهنية وغيرها.
وأملهم كبير في وقف الاعتقالات السياسية، والملاحقات الأمنية، وبسط التفكير، واتاحة حرية الرأي، والاستماع لعامة الناس قبل خاصتهم، وعدم محاسبة من ارتفع صوته بصدقٍ، أو انتقد بمحبة، أو عارض بإخلاص، فلا كتاب تكسر أقلامهم، ولا رسامين تهشم أطرافهم، ولا مصورين تصادر كاميراتهم، ولا أصحاب رأيٍ وفكر يغيبون، يقتلون أو يسجنون.
وجميعهم يحلم في وجود الشخص المناسب في المكان والموقع المناسب، فلا حرمان ولا إقصاء، ولا رشوة ولا محسوبية، ولا تقرب ولا تزلف، ولا تفضيل لأحدٍ على صاحب الدور والكفاءة، ومستحق الموقع والوظيفة، ولا عفو عن مجرمٍ، ولا تساهل مع مخطئ، ولا ظلم لصاحب حق، ولا اعتداء على ضعيف، ولا استقواء بالسلطة على مظلوم، لا سلطاتٍ تفرض، ولا قياداتٍ تجلب، ولا مسؤولين خالدين، وحكاماً سرمديين، وأولاداً وارثين، وملوكاً مستأثرين، وإنما عدالةٌ وديمقراطية، وشورى حقيقية، وحكمٌ بين الناس بالسوية.
وحلمهم الكبير يتمثل في استعادة وطنهم، وتحرير أرضهم، وعودة الوحدة إلى شعبهم، فلا اختلاف ولا انقسام، ولا نزاع ولا احتراب، بل ألفةٌ ومحبة، وتفاهمٌ واتفاق، وتعايشٌ أخويٍ على أرضنا الحرة من الاحتلال، والمستقلة بالرأي، والعزيزة بإرادتها، فلا وجود لقواتٍ عسكرية معادية على أرضنا، ولا ثكنات ولا قواعد ولا معسكراتٍ لجيوشهم بيننا، ولا سجون ولا معتقلات سرية لهم في أرضنا.
وبينما أنا مستطردٌ في تعداد أحلام أهلي، وتطلعات شعبي، نظرت في عيني صديقي الخليجي، فوجدته ساهماً شارداً، ويبدو عليه الذهول والاستغراب، توقفت عن حديثي، وأمسكت بكتفه، وسألته ما بك، ماذا أصابك، إلام هذا الشرود والتوهان.
فقال لي صديقي أصابتني أحلامُ شعبك بالحزن والأسى، واعتراني منها ألمٌ ومغص، فهي يا صديقي ليست أحلامُ شعبك، ولا أماني أهلك، إنها أحلام شعوبنا كلها، وأماني أهلنا العرب جميعاً، فما تشكون منه، نحن نشكو منه أكثر، وما تحتاجونه نحن نفتقر إليه، وما تأملون به نحن نتمنى أن نصل إليه، هذا هو حال العرب جميعاً يا صديقي، وليس حال الغزيين أو الفلسطينيين فقط، وإن كان لأهل غزة عذر ومبرر، فإنهم يعيشون تحت الاحتلال، ويعانون من الحصار، ومع ذلك فإنهم يحلمون، ويطمحون للتغيير، ولكن الحسرة علينا نحن، الذين ندعي الحرية والاستقلال، ونمتلك الأموال والخيرات، وعندنا من النعم والأرزاق الشئ الكثير، لكن خيرنا ليس لنا، وعطاء السماء في أرضنا هو لغيرنا، وقرارنا لا نملكه، وإرادتنا لا نعيشها، واستقلالنا لا نتمتع به.
قد أوجعتني يا صديقي، فلا تُعد على مسامعي أحلامك، ولا تنغص عيشي بآمالك، ولا ترهقني بتطلعاتك، فقد فتحت جروحي، وآلمت نفسي ...
وداعاً صديقي .... لا أريد أن أشرب القهوة ... فقد شربت المر مما سمعت.. سلامٌ يا صديقي.