انقذوهم...

بقلم: عيسى قراقع

أن يحدد الطبيب حياة الأسير المريض معتصم رداد ما بين ستة شهور إلى سنة، ويضعه أمام جوف الهاوية القادمة، جسدا مرهقا مشبعا بالنزيف الدموي وسرطان الأمعاء، ويعلقه على أمنياته المؤقتة بالعيش قليلا قليلا مع أسرته وعائلة قبل الرحيل، كل هذا يضع الإنسانية جميعها أمام سؤال الحياة في ظل الاحتلال.

أنقذوهم ... لا لكي يعيشوا أكثر مما قرر مرضهم العضال، ولا كي يتجاوزوا قدرهم ومصيرهم كمناضلين اعتقلوا وأرواحهم على اكفهم، بل لتحموهم من قهر الموت الساخر والموجع، ينهشهم رويدا رويدا، يزورهم كل ليلة اسود اسود، يغلق على أجسادهم مساحات الهواء ويحشرها في عتمة اللايقين.

انقذوهم ... وأنتم تؤدون صلاة أعياد الميلاد المجيدة، وانتم على أبواب الكنائس وأضرحة القديسين، قبل الغطس وبعد رش ماء الورد والبخور والأدعية النورانية، وانتم تقفون في صلاة الجمعة بين صوت الآذان وهطول المطر من السماء، هؤلاء الأسرى المرضى المدمرة أجسادهم، المحشوة بالخوف والأمراض وسموم الأدوية، المشلولين والمعاقين والمقيدين والجالسين على سلالم توابيتهم ينتظرون من يحملهم كاملين.

أنقذوهم... ولا تتركوهم أيتاما ضائعين في البوسطات والزنازين وجفاف الأسئلة، لا احد رأى ورما يمشي في حنجرته حتى أخمص قدميه ولا زال يحلم ، ولا احد رأى عضلاته تنكمش وجسده يتكور حتى يفقد الكلام ولا زال يحلم، لا احد رأى نبضات قلبه تتباطأ ولازال يدافع عن حق قلبه بالحب والحنين، هم أسراكم الذين حولوا أجسادهم أفكارا للبراهين وأوصوا بالمستحيل.

أنقذوهم .. من حقهم أن يشربوا القهوة ككل الناس، وأن يضيئوا معنا شجرة الميلاد أمام البيت، أن يمشوا في الحقل ويلاعبوا الفراشات ، أن يستريحوا تحت زيتونة ويخرجوا من غياب النص وجنون الأساطير، فاجعلوهم يستقبلوا عاما جديدا حاملين ورودهم للبعيد.

انقذوهم... هؤلاء الأسرى المرضى المذبوحين بهدوء الجلاد والطبيب: يسري المصري المصاب بالسرطان ، ومنصور موقدة المعاق، وعلاء الهمص الذي يصارع أورامه الخبيثة، ومحمد براش الذي لا يبصر ولا يسمع ولا يمشي، وخالد الشاويش المخدر بمائة نوع من الأدوية ولا زال يرتجف ، ونعيم شوامرة الذي تذوب عضلاته ويتناثر لحمه أمام قبر يزداد اتساعا، هؤلاء المحكومين بالإعدام مرضا وإهمالا دون حليب من السماء أو مخلص يفتح عليهم باب المغارة.

أنقذوهم ... وأنتم تقرعون الأجراس، وانتم تمرون عن حاجز قلنديا العسكري، وانتم تشاهدون المستوطنات الشاهقة تأكل الأرض والندى ، وانتم تمرون بين جدار وجدار، وأنتم تبحثون عن ماء البئر أو حبة البرتقال، وانتم تفتشون في أيامكم الباقية عن مساحة أخرى لهذا المدى وخطى الأنبياء.

أنقذوهم... قبل أن يسقط مراد أبو معليق و معتز عبيدو ويوسف نواجعة وعامر بحر وطارق عاصي، ورياض العمور ومحمود سلمان وناهض الأقرع ويصير الوداع متأخرا وإنشاءا لا يؤثر بالأمس ولا بالغد، ولا يجلب عكازا يدق سقف الريح عندما يمشي في الجنازات بلا أقدام.

انقذوهم ... لأنهم لا يحتاجون إلى صور أو ندوات، يحتاجون إلى قرار وغضب، يحتاجون أن ننظر في المرآة ونسأل عن هذه الوجوه المتكسرة والمهشمة ، أن نكون نحن نحن، لسنا ظلالا ولا أشباحا، أن يخرج الميت فينا من الحيّ، ونمشي قبل هبوط الظلام على الأسرى واضحين واضحين.

يا خالق الموت دعهم قليلا، اطل عليهم الرجاء حتى يصل صوت الحصان ويمر بابا نويل من ساحتنا ويوزع الهدايا على الأولاد، دعهم يعيشون حاضرين أحياءا ولا تضف على الخسارة خسارة، لهم أمهات وأسماء وأطفال وذكريات وأحلام قريبة.

يا خالق الموت دعهم قليلا، لا تفجعنا في عالم لا سماء له سوى الأسلاك والأرض تحتنا تصرخ بلا مغيث، دعهم يصلون القدس لا القبر، ويرتلون معنا نشيد الميلاد، أرجئ موتهم فلهم بعد قليل كلام مع الجلاد ومع الغياب، حياتهم ساخنة، وأنت على كل شيء قدير.