الفقر لا يعيب والجوع لا يقعد

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

الفقر ليس عيباً، ولا فيه ما يدين الإنسان، أو يحط من قدره، أو يدنس شرفه، أو يجعله دوناً بين الناس، أو مطيةً لهم، أو محلاً للسخرية منه، والتهكم عليه، وجعله مادةً للتسلية، وموضوعاً للتسرية، فالفقراء هم سواد البشرية الأعظم، وأكثريتها المطلقة منذ فجر التاريخ، وهم صناع الأحداث، وقادة الشعوب، ومفجروا الثورات، وحملة مشاعل الحرية، ومصابيح العلم والهدى، وإن كانوا فقراء معدمين، أو بؤساء محرومين.

بل إن الفقير أصدق لساناً، وأصفى نفساً، وأطيب خلقاً، وأبسط عيشاً، وأهنأ حياةً، وأرحم إنساناً، وأكثر كرماً، وأشد وفاءً، وأعرق أصالة، وأفضل صديقاً، وأوسع عطاءً، وأسخى يداً، يرحب بالضيف ويبش في وجهه، ويكرم الوافد، ويحسن إلى المحتاج، ويستقبل الغريب، ويبالغ بالترحاب صادقاً، ويعطي أفضل ما عنده، وأقصى ما يستطيع، ولو كان معدماً لا يملك شيئاً، ومحتاجاً لا يستغني عما عنده.

وما من نبيٍ كان غنياً، بل إن رسل الله أجمعين كانوا فقراء، وعملوا أجراء، واشتغلوا بالرعي والتجارة، وعملوا بأيديهم في جمع الحطب، وأكلوا من كدهم، وربطوا على بطونهم جوعاً، وصاموا بسبب الفقر أياماً، وما كانت النار توقد في بيوتهم، ولا الإدام يدخل طعامهم، وكانوا يستدينون من غيرهم، ويعملون للوفاء بما عليهم، وعلى الرغم من فقرهم فقد كانوا أنبياءً، وكانوا علماءً وحكاماً، فما حط الفقر من مقامهم، ولا أوهن عزائمهم، ولا أضعف قواهم، ولا حل عرائكهم، وما أشعرهم بالهوان، ولا جعلهم يشكون ويتذمرون، ويغضبون ويثورون.

لكن العيب أن يستكين الفقير وأن يضعف، وأن يستسلم ويخضع، وأن يذل ويخشع، وأن يمل وييأس، فيركن إلى فقره، ويستكين إلى جوعه، فلا يخرج للعمل، ولا يبحث عن الرزق، ولا يسعى في الأرض، ولا يبذل جهداً، ولا يعرق أو يتعب سعياً وعملاً، بل يرمي بأحماله وأثقاله على الله في تواكلٍ مذموم، وعجزٍ مكروه، وسلبيةٍ مقيتة، قائلاً إن الرزق بيد الله، يرزق من يشاء بغير حساب، وما كتبه الله لي فسيكون، ولو كان لقمةً في فم سبعٍ، أو مضغةً في جوف حوتٍ.

أجل ... إن الرزق بيد الله، وهو سبحانه الذي يوزع الأرزاق على عباده، ولكنه جل شأنه لا يرزق نائماً، ولا يمنح حالماً، ولا يعطي متسولاً، ولا يتفضل على من أغلق على نفسه بابه، واستلقى في فراشه، نائماً يدعو الله أن يرزقه، ويسأله أن يعطيه، دون أن يخرج بحثاً عن عمل، وسعياً في فجاج الأرض ينبش عن رزقٍ أو وظيفة، وقد علم يقيناً أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولكن الأرض لا تبخل على من حرثها وبذرها، وبنى فيها وعمر، وزرع فيها واستثمر.

الحياة صعبةٌ ومريرة، والظروف قاسيةٌ وشديدة، والدنيا لا ترحم، والقوانين أصعب من أن تغالب، والأغنياء أبخل من أن يعطوا، وأخوف من أن يسلموا، وآخر همهم الفقير وما يكابد، وحاجته وما يعاني، بل إنهم يضيقون على الفقير ويتشددون معه، ولا يغفرون له، ولا يتساهلون معه، بل إن عليه أن يقدم أقصى جهده، لينال أقل القليل، ويحوز على النزر اليسير من الأجر، الذي لا يوازي الجهد، ولا يضاهي الإنتاج.

والأنظمة والحكومات لا يعنيها الفقير، ولا يهمها شأنه، إذ يؤذيها شكله، ويزعجها مظهره، وتقلقها حركته، فهي لا تريده ولا تتشرف به، ولا تقدمه ولا تقبل به معبراً عنها، أو ناطقاً باسمها، وهي تحاسبه إن اجتهد في البحث عن الرزق، فامتلك عربة خضار، أو كشكاً لبيع السكاكر والمرطبات، أو اشترى سيارةَ أجرة، أو حاول أن يبتدع حرفةً بها يعيش، ويستر نفسه وأسرته بما تدره عليه ولو كان قليلاً، وبدلاً من أن تيسر عليه، وتساعده في عمله، وتقنن له وتحميه، فإنها تصادر العربة، وتنثر البضاعة، وتعتقل الباعة، وتحتجز السيارة، وغير ذلك مما يضيق على الفقير، ويزيد في معاناته.

الأنظمة والحكومات التي تثقل كاهل المواطن الفقير قبل الغني بالضرائب والرسوم، تقصر في حق الفقراء عندما لا تخلق لهم وظائف، وعندما لا تساوي بينهم وبين الأغنياء في الفرص، ولا تحاول أن تقدم لهم العون والمساعدة، والمشورة والنصيحة، لفتح مشاريعٍ صغيرة، ومشاغل بسيطة، تشغل المجتمع، وتحرك عجلة الاقتصاد، وتوظف طاقاته الفقيرة، وتحمي غالبيتهم من غول الجوع الكافر، والفقر المدقع.

إنها السلطات الحاكمة، والحكومات المتنفذة، التي تتحمل وحدها المسؤولية الكاملة عن حال الفقراء، وأوضاع المواطنين البسطاء، إذ بإمكانها العمل على تشغيل قطاعاتٍ واسعة من المواطنين، واستدرار الأموال لفتح مشاريعٍ جديدة، وهي قادرة من خلال تجارب الآخرين، وخبرة الدول الأخرى على اختلاق وسائل وسبل، وتفعيل مشاريع عمل، تكون قادرة على امتصاص الفائض من الأيدي العاملة، والاستفادة من قدرات الشباب وابداعات الموهوبين، وتحسين الإنتاج ومضاعفته، وتطوير البلاد وتجميل المدن وتحسين القرى والبلدات، عندما تجعل من المواطن شريكاً لها، ومتعاقداً معها، ومخلصاً لها، ومؤمناً بها، ومقدراً لجهودها، وعاذراً لها تقصيرها عند العجز وفي مواجهة الخطوب.

ويح الفقراء الذين لم يسمعوا بالقول الخالد، عجباً لمن لا يجد القوت في بيته، لا يخرج على الناس شاهراً سيفه، ولا بقول الإمام علي بن أبي طالب، الذي قال مواجهاً الفقر، لو كان الفقر رجلاً لقتلته، إنها ليست دعوة للثورة، ولا صرخة للفوضى، ولكنها بيانٌ للفقير بأنه الأقوى، وأنه صاحب الحق دوماً حتى يناله، وأن الفقر لا يعيبه، والجوع لا يقعده ولا يشله، ولا يعجزه ولا يذله، وأن عليه أن يجد ويسعى، وأن يعمل ويواجه، فهذه الدنيا تؤخذ غلاباً، تحتاج إلى جهدٍ، ويلزمها الجد والكد، إذ ينتصر فيها صاحب البأس الجلادُ.