كي نتذكر ولا ننسى، نواصل في هذه الحلقة نبش الذاكرة وإلقاء الضوء على تاريخ مدينة عكا العريقة ، في إطار الحديث عن المدن الفلسطينية التاريخية التي تواجه عمليات الاغتيال والتهويد ، بمناسبة الذكرى الـ (66) للنكبة الفلسطينية ، وذلك تعميقاً وتجذيراً للوعي الوطني، وبهدف تعريف الأجيال الناشئة بتاريخها وحضارتها .
عكا هي أميرة وحورية البحر ، وعروس الساحل الفلسطيني ، ودرة المدائن ، ومدينة الأسوار ،التي عجز نابليون عن اختراقها ، المسكونة بالحزن والوجع والأمل . تعتبر من أقدم مدن العالم وأهم مدن فلسطين التاريخية ، اسسها الكنعانيون (الفنيقيون) ، ويعود تاريخها الى الألف الرابع قبل الميلاد . وقد سقطت بأيدي تحتموس الثالث المصري ، وفي عهد اخناتون أعلنت تمردها على مصر مما دفع برعمسيس لتدميرها ، ولكن نظراً لأهميتها البحرية والحضارية أعاد المصريون بناءها من جديد، وجعلوها قاعدة حربية لفتوحاتهم في الشرق .
تشتهر عكا بأسوارها المنيعة ، التي كان لها الدور الأكبر في تسطير تاريخها عبر أكثر من أربعة آلاف سنة ، ويصدق فيها القول الشعبي "يا خوف عكا من هدير البحر" . ومنذ فجر التاريخ وحتى أواسط القرن التاسع عشر شكل ميناؤها عصبها النابض والحافز الأول لتألق حضارتها . وفي الحقبة الصليبية بلغ هذا الميناء أوجه وأصبح يوازي ميناء الإسكندرية ، ودأب الفرنجة على تحصينه ، وأقاموا حوله الأبراج والأسوار والقلاع ، ورفعوا كاسر الأمواج وأعادوا ترميم وتحصين برج الذباب . وذكر الرحالة الصليبي مارينو ساندر أن ميناء عكا بلغ مساحته ما يقارب 60 دونم .
اكتسبت أسواق عكا مكانة متميزة في اقتصاديات المدينة ، وازدهرت هذه الأسواق بفضل مينائها الهادئ الجميل والخالد ، وفيها ثلاثة أسواق يعود تاريخها إلى العهد العثماني وهي: السوق الأبيض والسوق التركي أو العتم والسوق الشعبي ، ولم يبق منها سوى سوق واحد فقد شكله الطبيعي بفعل التعديلات والترميمات التي أجريت فيه .
ومن أشهر واهم معالم عكا وآثارها التاريخة : القلعة ، التي تقع في وسط أسوارها الشمالية ، وتعتبر أضخم مبانيها وأشدها حصانة ، وتتألف من ثلاثة أقسام أساسية وهي برج الخزنة والجيخانة والقشلة . وقد تحولت هذه القلعة في أواخر العهد العثماني إلى سجن مركزي ، وفيه سجن واعدم نشيطو ثورة البراق عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي . هذا بالإضافة إلى خان العمدان وخان الفرنج وخان الشونة وخان الشوردة وخان الحمير والسرايا والنفق الأرضي وحمام القديس حنا وحمام الباشا وحمام ظاهر العمر ومسجد الجزار أو جامع الأنوار ، الذي شيد على نسق الفن المعماري المتبع في بناء مساجد اسطنبول ، في حين غلبت عليه الزركشة المعروفة بالعربسك ، التي كانت متبعة في زخرفة مساجد القاهرة ، وجامع اللبابيدي وجامع البحر وجامع الرمل الشهابي وجامع ظاهر العمر وجامع الزيتونة وجامع المجادلة وجامع البرج والكنيسة المارونية وكنيسة القديس اندراوس وكنيسة القديس يوحنا . وكذلك مقام عز الدين ومقام احمد ابو عتبة ومقام الشيخ غانم ومقام الشيخ يانس ومقام النبي صالح وغير ذلك .
قبل النكبة شكلت عكا صرحاً ثقافياً وفنياً ، وكانت تجذب إليها الزائرين من كل حدب وصوب ، واحتلت مكانة طليعية مهمة كمركز ثقافي وفكري ، ومن رحمها وثراها خرجت اسماء أدبية وفكرية وثقافية وفنية لمعت في دنيا الإبداع الإنساني، وكان لها بصمات واضحة وإسهام كبير ومهم في المشهد الفلسطيني والعربي كالشهيد الأديب والروائي غسان كنفاني والكاتبة الصحفية سميرة عزام والناقد المعروف انطوان شلحت والشاعر الباحث نظير شمالي والكاتب فايز الكردي والصحفي المرحوم محمود ابو شنب والشاعر الأديب يعقوب حجازي مؤسس "الأسوار " - دار النشر الرائدة في نشر الثقافة الوطنية والفكر الإنساني الديمقراطي التقدمي الملتزم ،والفنان الموسيقار صدقي شكري ، والمبدعة رشا حلوة والفنان وليد قشاش وغيرهم الكثير .
وارتبطت مواسم الفرح في عكا بالمهرجانات الأدبية والشعرية والثقافية المتعددة في الزمن الغابر ، أشهرها "مهرجانات الزجل " التي كان يشارك فيها نخبة من شعراء لبنان وسوريا وفلسطين . وكان ملتقى المطارحات الزجلية في "مقهى الدلالين" في ليل طويل يحلو فيه السهر والسمر، وكان لكل شاعر عزوته ومناصروه . ومن ابرز الزجالين والشعراء الشعبيين ، الذين كانوا يترددون على عكا ومقهى الدلالين ، وساهموا في هذه الملتقيات والمهرجانات الزجلية : يوسف حاتم الزخلاوي ومحمد محمود الزين الشحوري واحمد علي الحروفي من لبنان. ومن فلسطين: مصطفى السعيد الحطيني ويحيى العمقاوي وأبو خليل الشعبي ومحمد الحسين العبليني ورشيد العبد مناع وتوفيق الريناوي واسعد عطاللـه ويوسف العابد ويوسف الرهوان ومحمد أبو السعود الاسدي وشقيقه قاسم الأسدي / أبو غانم وفرحان سلام وصالح العثمان وعبد اللطيف العجاوي وسواهم .
خلاصة القول، عكا اليوم مدينة حزينة باكية تقاوم العنصرية ومشاريع الاقتلاع ، ورغم حزنها وبؤسها وشقائها ، تبقى "أقدم المدن الجميلة وأجمل المدن القديمة " كما وصفها وقال عنها شاعرنا الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش ، الذي كان يزورها مع صديقه شق البرتقالة الفلسطينية الشاعر سميح القاسم لاحتساء فنجان قهوة في مقاهيها، واكل السمك في مطاعمها ، والتمتع باللحظات الجميلة على شاطئها وبين أزقتها وخاناتها وعلى أسوارها ، والمشاركة في مهرجاناتها الشعرية وأمسياتها الأدبية.