تفقد المحافظون قاعات امتحانات التوجيهي وقالوا أن كل شيء رائع وتسير الأمور بشكل طبيعي، ولكنهم ذهلوا عندما سقطت الطالبة فاطمة العروج بسكتة قلبية على مقاعد الامتحانات في بيت لحم.
التوجيهي هو الخوف والرعب في الثقافة والتربية الفلسطينية، التوتر والانتظار والاعتقاد انه يحدد ويقرر المصير ليس لحياة ومستقبل الطالب بل ولأسرته ولعائلته التي تظل في حالة استنفار على مدار الامتحانات خائفة أن يسقط الولد أو البنت وتعم الفضيحة.
نظام الثانوية العامة النمطي والتقليدي الذي يساوي مستقبل الطلبة بالعلامات الجرداء، ويقرر خطواتهم القادمة، هو نظام قديم لم يطرأ عليه أي تغيير أو دراسة أو تطوير منذ زمن بعيد، يعتمد على التلقين والحفظ وتحيط به هالة من القلق والرهبة وكأن الطالب مقبل على حرب ضروس عليه أن ينتصر بها بأي طريقة وإلا فإن الهزيمة ستكون ساحقة عليه وعلى أحلامه الوليدة.
فاطمة العروج الطالبة الذكية والناجحة عاشت هذه الأجواء في محيط قريتها، وسمعت ما يدور في الحارات وبين العائلات ، وعليها أن تسهر الليل الطويل، وان تسجن نفسها في غرفتها فوق الدفاتر والكتب، وأن تحشو رأسها بكل المقررات المطلوبة وتذهب إلى الامتحان جاهزة مشحونة بالاستعداد والإرادة.
قلبها المرتجف المتوجس لم يحتمل هذا المحيط الرمادي وهذا الدخان المتصاعد من تحت المقاعد، وهذا التلصص من المراقبين وبعيونهم الحادة وقدراتهم على اصطياد كل صغيرة وكبيرة تحت شعار: الممنوع، الهدوء، الصمت، التشنج بالعضلات والأيدي والرقبة والعقل حتى ينتهي موعد الامتحان.
سقطت فاطمة، وسقط طالب آخر مغشيا عليه، ربما لأن الأسئلة صعبة، وربما لأن ذاكرة حفظ المعلومات قد تيبست، أو لأن السهر الطويل ووصايا الأهل قد فاضت عن المحتمل والممكن، أو لأن الفرح القادم وتوزيع الهدايا وإطلاق الفقاعات النارية في البيت والحارة هو المطلوب لاحقا، وعليه يبقى ذلك مرهونا بالنجاح حتى تطلق فقاعات الفرح ولا تخزى العائلة أمام العائلات الأخرى.
كان هناك مشروع قدم من وزارة التربية والتعليم الفلسطيني على إجراء تعديلات على نظام الثانوية العامة والذي يكون على مدار سنتين في محاولة لإعادة صياغة التعليم بحيث يركز على المضمون والعملية التربوية التراكمية وليس على الجانب الميكانيكي والشكلي لها.
هذه المحاولة التي أرادت أن يركز فيها الطالب على الفهم والتحليل وليس على الحفظ، ومن أجل تنمية إبداعات وطاقات الطالب بحرية ودون توجس أو وضعه في قالب جامد أو صندوق مغلق، تستحق الدراسة من جديد وذلك لنزع فتيل الرعب الثقافي الاجتماعي الذي يصاحب امتحانات الثانوية العامة.
إن أدوات القياس والتقييم للطلبة يجب أن لا تبقى العلامة لأن ذلك يتناقض مع مقومات نجاح العملية التربوية والتعليمية، فكثير من الطلبة الذين حصلوا على علامات متدنية تفوقوا في تحصيلهم العلمي في جامعات أجنبية قبلت معدلاتهم بعد أن أعطوا مجالا لإبراز قدراتهم وطاقاتهم الأكاديمية والحيوية، و حسب تعبير فولتير الذي قال: التربية تطور المواهب لكنها لا تخلقها.
ولعل المقترح بتبسيط نظام التوجيهي ليمتد على مدار عامين متواصلين ونزع حالة الضغط النفسي والحشو المعلوماتي من حياة الطالب سيعكس نفسه على العملية التنموية والبشرية والمجتمعية وخطوة هامة نحو الأمام في تطوير نظام التعليم الثانوي، وكما تقول الطبيبة والمربية التربوية منتسوري: هدفنا هو النظام الذي يأتي ثمرة للنشاط لا النظام الذي يأتي ثمرة للسكون والجمود والطاعة والإكراه.
لقد استمر سقوط ضحايا التوجيهي في كل عام دون أن يحرك أي مفكر أو تربوي ساكن لمنع جرائم الامتحانات باعتبار ذلك مسؤولية وطنية شاملة ، فتلك الطالبة من طولكرم أقدمت العام الماضي على شنق نفسها بسبب عدم نجاحها في امتحان التوجيهي غير قادر ة أن تتحمل الجو النفسي الذي سيصاحب الرسوب بالامتحان، وأقدمت طالبة أخرى على محاولة إلقاء نفسها من فوق عمارة سكنية في غزة بسبب عدم نجاحها في الثانوية العامة وغيرها من الحوادث المتكررة.
العلاقة بين الطالب ونظام التوجيهي علاقة عدائية، لهذا قال لي احد الطلاب أصبح المصحح للامتحانات عدوا لي، والمراقب والأستاذ وواضع الأسئلة وأهلي أعداء جميعا، إنها علاقة مشوهة قائمة على الخوف وانعدام الصداقة وتتناقض مع ابسط قواعد النمو التربوي واكتشاف الميول والاتجاهات لدى الطلبة.
وتساءل طالب آخر عن أهمية علامة التوجيهي ما دام القبول في الجامعات يعتمد بالأساس على امتحان قبول آخر تقرره الجامعة بغض النظر عن علامة التوجيهي، وما بين الامتحانين يظل الطالب في اختبار يقطع المسافات نحو المجهول.
الطالبة فاطمة العروج التي أصيب قلبها بتشنج في ساحة مدرسة تقوع الثانوية، تكسرت أحلامها وغاب جسدها وتحول موسم التوجيهي في البلدة الى موسم للعزاء والحسرة، فهل ستكون الضحية الاخيرة ويبدأ التغيير الجذري لكل النظام التربوي الفلسطيني ولا يبقى التوجيهي كرباجا عقليا ونفسيا وروحيا يجلد به الطلبة تحت شعار سباق العلامات.
ويبقى السؤال التربوي المجتمعي: من قتل الطالبة فاطمة العروج ومنعها أن تحمل شهادتها مزهوة بعقلها ومستقبلها الوردي .... لم يسمعها أحد، لا الأستاذ ولا الوزير ولا حتى المراقب في قاعة الامتحانات إلا عندما سقطت.
تقول فاطمة:
في ذاك الصف الصامت
أسئلة ولون غامض
وجع في الصدر
وسطر أخير
يكتبه قلب نابض