غزة تحت النار (32)

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

وهم القضاء على المقاومة

منذ خمسين سنة وسلطات الاحتلال الإسرائيلي تشن مئات الحملات الأمنية والعسكرية الشرسة على الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان، تحت شعار القضاء على المقاومة، وسحب سلاحها وتفكيك خلاياها العسكرية، وإضعاف بُناها التنظيمية، وتجفيف منابعها المالية، ومهاجمة المقاومين في أوكارهم، والقضاء عليهم قبل تعاظم قوتهم، وزيادة أخطارهم، وإجهاض عملياتهم قبل تنفيذها، وإرباكهم وتعطيل برامجهم من خلال الضربات الأمنية المتلاحقة والمفاجئة، وذلك للتقليل من أخطارهم، ومنعهم من تشكيل خطرٍ على أمن وسلامة دولة الكيان ومواطنيه، فيما يسمى بالعمليات الاستباقية، والإجراءات الوقائية.

قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال حملاتها العديدة بقتل المئات من الفلسطينيين واللبنانيين، ودمرت آلاف البيوت والمنازل، وشقت مكانها مئات الشوارع، وخربت المؤسسات والمصانع والمعامل، وخلعت الزروع والأشجار، وأحرقت المزارع والحقول، وحاربت البساتين والأحراش، وزجت في سجونها ومعتقلاتها بمئات الآلاف من الفلسطينيين، وأبعدت وطردت المئات، وضيقت على المواطنين استدعاءً ومراقبة، وتفتيشاً ومداهمة، ومنعاً ومحاكمة، وحرماناً وعقاباً.

لكن المقاومة لم تنتهِ، ومعينها لم ينضب، ورجالها لم يندثروا، وجمرتها لم تخمد، وعملياتها لم تتوقف، ومنابعها لم تجف، وسلاحها لم يشح، وعملياتها لم تتراجع، وقوتها لم تضعف، وألمها لم يخف، ومؤيدوها لم يخافوا، وعنها لم ينفضوا، وبات جمهورها في ازدياد، والمنتمون إليها في تعاظمٍ وتنافسٍ، وباءت إجراءات العدو بالفشل ولم تنجح، ولم تأت بالنتائج المرجوة، والآمال المتوقعة، ويأس قادته، وتعب ضباطه، وحارت أجهزته، وأعيا كيانهم مواجهةُ قدرات المقاومة، ومحاربةُ رجالها، والتأثيرُ على عملياتها، والتقليل من أخطارها.

تبارى مئات الضباط والقادة العسكريين وتنافسوا لوأد المقاومة والقضاء عليها، وتعاوروا في المناصب والوظائف، وتبادلوا الخبرات والتجارب، واستخدموا غاية ما عندهم، وأقصى ما أنتجته عقولهم، واعتمدوا كثيراً على العقلية العسكرية والمنهجية الأمنية، وكان منهم موشيه دايان واسحق رابين، وأرئيل شارون وموشيه أرنس، وأيهود باراك وشاؤول موفاز، وأخيراً موشيه يعالون، ولكن أحداً منهم لم يتمكن من تحقيق هدفه، والوصول إلى غايته، بل فشلوا جميعاً في تحقيق مآربهم، ووقعوا كلهم في شر أعمالهم، وسوء تخطيطهم، وعاقبة عملهم.

لعل العدو الصهيوني من الحماقة والغباء أنه لا يدرك أن جهوده ضد المقاومة قد أتت بنتائج عكسية، وأثمرت عكس ما كان يتمنى، فبعد أن كان المقاومون لا يجدون بندقيةً أو مسدساً، ويبحثون بشق الأنفس عن قنبلةٍ أو عبوة، ويدفعون في سبيل الحصول عليها دم قلوبهم، وحلي نسائهم، ومدخرات عمرهم، وأحياناً أرواح رجالهم، وكثيراً ما كانت الأسلحة قديمة أو فاسدة، أو مشركة بفخاخٍ ومصائد، الأمر الذي جعل المقاومين يتعاونون فيما بينهم على قطعة السلاح الواحدة، يستخدمونها في أكثر من عملية، وتستغلها أكثر من مجموعة، وينقلونها من مكانٍ إلى آخر، وأحياناً من بلدةٍ إلى أخرى، لتعوض النقص، ولتقوم بالمهمة والغرض.

بعد كل تلك الجهود المضنية، والمساعي المحمومة، والحملات الأمنية والعسكرية المسعورة، أصبحت المقاومة تملك ما لم يكن يحلم به العدو الصهيوني، إذ لم يعد سلاحها مديةٌ وسكين، وحجرٌ ومقلاعٌ ومتراس، وقنبلةٌ ومسدس وبندقية، بل باتت تملك أسلحةً رادعة، وقدراتٍ فائقة، وإمكانياتٍ هائلة، وأصبح عندها الصاروخ والمدفع، والبنادق الآلية الحديثة، والقنابل المتعددة، الهجومية والدفاعية، والمدمرة والحارقة، وصار عندها طائرة ومنظومة صواريخ متعددة، وبنك أهدافٍ زاخر، وقدرة عالية على التجدد والتطوير، وقدرة على التمويه والتعمية، والتضليل والتستر والتسلل.

باتت المقاومة اليوم تملك قدراتٍ تقنية عالية، تخترق المنظومات الأمنية، وتدخل على المجاميع الإليكترونية، وتربك البث الفضائي، وتدخل على محطات التلفزة والإذاعة، وتبث من خلال برامجها بياناتها، وترسل عبرها تهديداتها، وتخاطب قادة الكيان ومواطنيه، وتفضحهم وتكشف زيف حقيقتهم.

المقاومة اليوم تجتاح وسائل الاتصال والحساب الشخصية ووسائل الاتصال الاجتماعية الخاصة، وتخترق الحساب الذي تريد، وتجمع منه المعلومات والبيانات التي تجد، وترسل له الرسائل والتهديدات، وتدخل على البنوك والمؤسسات، وتجول كيف شاءت في الوزارات والهيئات، ولديها زياراتٌ غير ودية لمؤسسات جيش العدو المختلفة، لتتعرف على أسماء جنوده، ورتب وأسرار ضباطه، ومناطق سكنهم وأماكن خدمتهم، وعناوين أهلهم ومعارفهم، ورسائلهم لبعضهم ولعشيقاتهم، وخطاباتهم لقيادتهم، وشكواهم لمسؤوليهم.

المقاومة الفلسطينية اليوم تتسلل وراء خطوط العدو، وتقوم بعملياتٍ خلف خطوط النار، تباغت الجيش في الثكنات والمعسكرات، وتخرج لجنوده من جوف الأرض كالأشباح، ترديهم قتلى، وتسوقهم أسرى، وتخطفهم بلباسهم العسكرية، وعتادهم القتالي، ولا تفرق في عملياتها بين جنديٍ وضابط، أو قائدٍ ومسؤول، فكلهم عندها هدف، وتحت نيرانهم مقصود.

المقاومة اليوم في فلسطين إرادةٌ وقوةٌ، وعزمٌ ومضاء، ويقينٌ وإيمان، ورؤيةٌ وبصيرة، وقيادةٌ رشيدة عليمة، آمرةٌ حكيمة، مخلصةٌ لا ترائي، وعاملةٌ لا تتظاهر، تقاتل بصدق، وتقاوم بحق، ورجالٌ شمٌ كالرواس، يقاتلون بقوةٍ وشراسة، ويخيفون العدو بمظاهرهم، ويؤلمونه بعملياتهم، ويوجعونه بمفاجئآتهم، ومن ورائهم شعبٌ صابرٌ، وجمهورٌ صادقٌ، وأمةٌ مؤمنةٌ بالنصر، وموقنةٌ بالتحرير، تمد المقاومين بالأمل، وتشحذ عزائمهم، وتقوي إرادتهم، وتمضي معهم وقبلهم نحو أهداف الأمة، وأماني الأجيال.

الاثنين 12:25 الموافق 21/7/2014 (اليوم الخامس عشر على العدوان)