لفهم مواقف حركة حماس المتبدلة والمتغيرة واللبس الذي تثيره مواقفها في الساحة السياسية أعيد نشر هذا المقال وهو عبارة عن حوار جرى مع قائد حمساوي في أكتوبر 1990م بحضور بعض الأخوة، وقد سبق نشره في 21/12/2011م وذلك لفهم ما يجري في المنطقة العربية.
في أكتوبر من عام تسعة عشر مائة وتسعين في مدينة تونس العاصمة وعلى وجبة غداء متواضعة اشتملت على (المجدرة) أو المدردرة كما يسميها بعض العرب ضمتني إلى جانب المرحوم جاويد الغصين عضو اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف مع أحد القيادات التاريخية لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين الذي أصبح فيما بعد قائداً بارزاً في حركة حماس ثم اعتزل العمل السياسي ولم يكن لي به سابق معرفة إلا بعد أن قدمني له ثم قدمه لي المرحوم جاويد وقال: إنه الباش مهندس ... من قيادة الإخوة في حركة حماس، وبادرته بالقول ما الذي جاء بك إلى هنا ... فقال: جئنا لإنقاذكم من الغرق ... فقلت: له أي غرق ؟! فقال: غرق التسوية، فأجبته: ياخوفي أنكم جئتم لتبحثوا لكم عن مقعدٍ في مركبٍ غرقان ...!!! وتمضي الأيام والشهور في تاريخ النضال الفلسطيني وتسقط بقايا النظام العربي بسبب النتائج الكارثية لاحتلال العراق لدولة الكويت وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991م، وما تلاه من محادثات واشنطن للسلام ومفاوضات أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية السرية وما تمخض عنها من اتفاق – تم توقيعه في واشنطن في 13سبتمبر 1993م برعاية الرئيس كلينتون وما أعقبه من انقسام للنخبة الفلسطينية والعربية من الموقف إزاءه ومن ثم عودة الرئيس ياسر عرفات ومعه القيادة الوطنية الفلسطينية المؤيدة والمعارضة لاتفاق أوسلو على السواء، وهنا كان لي تعليق على مجمل الحالة الفلسطينية أبلغته للشهيد أبو عمار وبحضور رفيقيه الرئيس أبو مازن ورئيس الوزراء السابق أبو العلاء، قلت له يا أخ أبو عمار إنك ورفاقك صناع تاريخ حتى ولو لم تحرروا شبراً واحداً من فلسطين إلا أنكم استطعتم أن تفتحوا ثقبا أو كوة في جدار النظام العالمي الجديد الذي تبشر به الولايات المتحدة، ليلج منه أولاً الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وليلج منه ثانياً الوطنيون والمناضلون الفلسطينيون المعارضون لكم والمؤيدون، وتبقى فلسطين وشعبها وقضيتها قضية تحظى باهتمام العالم وعلى رأس أجندته الدولية، فابتسم المرحوم أبو عمار وكأن هذه المداخلة من جانبي قد أرضت الكبار من القيادة، وأوصلت رسالة أن الشباب الوطني مدرك لأهمية ما يقومون به من أجل فلسطين وشعبها رغم ما يسمعون وما يقرؤون من انتقادات وملاحظات على اتفاق أوسلو ومجمل شروط التسوية المجحفة التي خضع لها المفاوضون الفلسطينيون، وقد كنت كتبت في هذا الشأن تحت عنوان (( الاطار السياسي المرجعي لاتفاق أوسلو )) و (( تأملات قانونية في اتفاق أوسلو )) ونشر ذلك في اكتوبر 1993م في جريدة الشرق الأوسط.
وسارت مسيرة بناء سلطة الحكم الذاتي وكانت انتخابات المجلس التشريعي الأول والرئاسة والتي قاطعتها القوى المعارضة لاتفاق أوسلو وفي مقدمتها حركة حماس التي كان دعاتها ومنظريها يحرمون التعامل مع نتائج اتفاق أسلو ... ويواصلون المقاومة العنيفة كتعبير عملي عن رفضهم واستنكارهم لهذا الاتفاق ونتائجه على الأرض ... ومرّت عملية التفاوض بإخفاقات كبيرة لدرجة أصبحت توصف تلك المفاوضات بالعبثية من قبل تيار التسوية نفسه وخصوصاً بعد الاخفاق الكبير صيف عام ألفين وما نتج عن ذلك من إنفجار كبير في 28 سبتمبر من عام ألفين والدخول في الانتفاضة الثانية الكبرى والتي سميت ((بانتفاضة الأقصى)) وفي أتونها بدأ التحرك الدولي محاصرة الانتفاضة ونتائجها والدفع بطرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات، وكانت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام ألفين واثنين التي رد عليها شارون ((بعملية السور الواقي)) وتدمير مقر الرئيس عرفات وفرض الحصار عليه ...، وقد تمخض الجهد الدولي عن طرح ((خطة خارطة الطريق)) والتي ترتب عليها جملة من الالتزامات على طرفي الصراع للعودة بناء على ذلك إلى طاولة المفاوضات ... وفي إطار فرض قواعد جديدة وأطراف جديدة على الطرف الفلسطيني، كان من الملفت للنظر أن يفرض على الجانب الفلسطيني فيها شرطان غريبان الأول تمثل في فرض منصب رئيس وزراء للسلطة للحد من صلاحيات الرئيس عرفات والثاني إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية للسلطة الوطنية. وقد استشهد الرئيس عرفات في 11/11/2004م ونظمت الانتخابات الرئاسية لملئ الموقع بعد شهرين من وفاته وفاز بها رفيقه الرئيس أبو مازن بنسبة 64% من أصوات المقترعين، وقد أعلنت حركة حماس أيضاً مقاطعتها لتلك الانتخابات، واستمرت في الدعاية لمقاطعتها للتعامل مع نهج التسوية والترويج الأيديولوجي لبرنامجها السياسي الغير منسجم مع الواقع، واستمرت الضغوط الدولية على السلطة الفلسطينية ورئيسها الجديد بضرورة إجراء انتخابات تشريعية كاستحقاق يتوجب القيام به لتأهيل الطرف الفلسطيني للتفاوض وفق ((خطة خارطة الطريق)) مع علم ويقين القوى الدولية وفي مقدمتها إسرائيل والولايات المتحدة أن جميع الظروف التي تمّر فيها الحالة الفلسطينية لا تصب في صالح قوى الاعتدال المؤمنة بالتسوية السياسية للصراع !!! فحاولت القيادة الفلسطينية حينها تجنب إجرائها إلى حين ترتيب الحالة الفلسطينية، إلا أنه أمام إصرار الولايات المتحدة وعلى رأسها الرئيس بوش الابن والذي عمل على إزالة كافة العقبات التي كانت تتذرع بها القيادة الفلسطينية لتأجيل الانتخابات، وفي مقدمتها القبول بمشاركة حركة حماس في الانتخابات وأن تشمل مدينة القدس الشريف، وعندها لم يبقى للقيادة الفلسطينية ما يمكن لها أن تتذرع به لتأجيل الانتخابات، والتي تم عقدها فعلاً في الخامس والعشرين من يناير للعام ألفين وستة، ولجملة من الأسباب لا تخفى على المتابعين والباحثين في الشأن الفلسطيني فقد حققت حركة حماس فيها فوزها التاريخي على قوائم حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وحصدت ستة وسبعين مقعداً من أصل المائة والاثنان وثلاثون مقعداً من مقاعد المجلس التشريعي !!! وهنا تذكرت غدائي مع القائد الحمساوي في تونس في أكتوبر من عام ألف وتسعمائة وتسعين، فقلت لقد تمكنت حماس من حجز مقعدها المتقدم في المركب الغرقان في بحر التسوية، ولا نريد الدخول في تفاصيل المشهد المؤلم الذي عاشه الشعب الفلسطيني على سطح المركب الغرقان حيث سال الدم الفلسطيني باليد الفلسطينية وانقسم الفلسطينيون إلى سلطتين تحت الاحتلال ... إلى آخره من فصول المعاناة التي ترتبت على هذا التزاحم على سطح المركب الغرقان بين القوى الوطنية ممثلة بفتح وفصائل م.ت.ف وبين حركة حماس ومستنسخاتها من الفصائل الإسلاموية ...!!! وإذا حاولنا أن نربط ما حدث في فلسطين في يوم 25/1/2006م من انتخابات حرة ونزيهة شهد العالم لها بذلك وما يحصل اليوم في الربيع العربي فقد كانت تلك الانتخابات هي الربيع الفلسطيني بامتياز فقد جاء مبكراً عن الربيع العربي لأن فلسطين دائماً على حد السيف، وهي الاستثناء دائماً، فربيع فلسطين وضع الشعب الفلسطيني تحت الحصار المالي والسياسي والعسكري والإنساني في ربوع السلطة الوطنية في غزة والضفة والقدس، وتلوى الجدار كالأفعى يقضم الضفة الغربية وتمدد الاستيطان فيها وتسارعت وتيرته ولا زال، وانقسمت السلطة في ظل نشوة حماس بالفوز بالانتخابات التشريعية، مدعية أحقيتها بفرض انقلابها السياسي والإيديولوجي والاجتماعي على الشعب الفلسطيني غير مدركة أن الشعب الفلسطيني ليس دولة مستقلة، رغم وجود سلطة الحكم الذاتي المحدود – وأن الشعب الفلسطيني لا زال يمّر في مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال والاستعمار والاستيطان، وأنه بغض النظر عن الفائز في أية انتخابات في ظل الاحتلال، أن الخيار الفلسطيني لا بد أن يبقى خياراً جبهوياً وطنياً عريضاً يضم كل ألوان الطيف السياسي والنضالي والوطني والاجتماعي والنقابي والفصائلي بغض النظر عن الحجوم الخادعة التي قد تفرزها صناديق الاقتراع، والتي يكون التأثير فيها وفي نتائجها للجموع المتأثرة بالخطابات العاطفية والمصلحية الآنية، التي لا ترى أكثر من الفائدة المباشرة المتمثلة ببيع صوتها لهذا الفريق أو ذاك، أو من يدفع لها أكثر أو يمنيها بفوائد أكثر، والشواهد كثيرة سواء في الحالة الفلسطينية أو غيرها من الحالة العربية التي نتابع فصولها في ربيع العرب الذي جاء متأخراً.
وبرزت شهوة السلطة لدى حركة حماس لدرجة فاقت فيها الكل الفلسطيني بالنظر للحكومة على أنها حكومة حماس، والسلطة سلطة حماس، والشعب شعب حماس، بشكل لا نظير له مما أدى إلى إنقلاب 15/06/2007م واقتطاع قطاع غزة ورهنه لسياسات الاستقطاب الإقليمي ليمنح إسرائيل فرصة مواصلة العدوان عليه والذي توج بعملية الرصاص المصبوب 2008/ 2009م ويدفع الشعب الفلسطيني في غزة أكثر من ألفي شهيد وعشرين ألف جريح وتدمير أكثر من عشرين ألف منزل، وتتمكن حركة حماس بعد ذلك أن تعلن أنها انتصرت من تحت الأنقاض ومن أقبية المستشفيات التي عجت برائحة الدم والموت والدمار، فكان الربيع الفلسطيني ربيعاً دامياً بامتياز على يد من خططوا لإنقاذ الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية من الغرق في بحر التسوية !!! ورغم كل هذه المآسي التي تعرض لها الفلسطينيون فإن فلسطين تبقى على حدِ السيف وتبقى الاستثناء، فقد صبرت القيادة الوطنية لـ م.ت.ف على كل ما أصابها من شلل جراء هذه السياسات الطائشة والتي لم يكن لدى أصحابها سوى هدف واحد وهو إقصاء م.ت.ف القيادة الشرعية التاريخية الوطنية للشعب الفلسطيني والحلول مكانها والسطو على إنجازاتها بعد أن كانت حراماً لا يحل ولا يجوز التعامل معها فأصبحت حلالاً زلالاً لا بد من الاستمتاع والانتفاع بها، هذا هو الربيع الفلسطيني الذي سبق الربيع العربي بخمس سنوات كاملة ...!!! وإذا ما كُتِبَ للمصالحة الفلسطينية المنشودة أن تتم وأن تنجز أهدافها أولاً: في استعادة وحدة السلطة الوطنية وثانياً: في بناء قيادة فلسطينية موحدة في إطار م.ت.ف وثالثاً: الاتفاق على والالتزام ببرنامج سياسي ونضالي ووطني موحد للشعب الفلسطيني، تكون فلسطين قد تعافت من آثار ربيعها الدامي والمدمر الذي تعرضت إليه بموجب خطة (خارطة الطريق الدولية) ، وأصبحت طرفا مؤهلا للمشاركة في مفاوضات جادة وذات مرجعية دولية تعتمد الشرعية الدولية وقراراتها بشأن الصراع العربي الإسرائيلي وبشأن القضية الفلسطينية بدءاً من التوصية (181) ( مبدأ الدولتين ) والقرار ( 194 ) (عودة اللاجئين ) والقرار ( 242 ) بعدم جواز ضم أراضي الغير بالقوة والانسحاب من الأراضي التي احتلت 1967م وصولا إلى القرار الأخير الذي اعتمد بالأمس في 19/12/2011م في الجمعية العامة وبأغلبية ساحقة غير مسبوقة على مشروع قرار ينص على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة بجانب دولة إسرائيل، حيث يشكل هذا القرار (الانتصار) تطوراً غير مسبوق على طريق الشعب الفلسطيني للحصول على عضوية فلسطين الكاملة في المنظومة الدولية وإبقاء قضية فلسطين قضية هامة تتصدر أجندة الاهتمامات الدولية وتبقيها حالة استثنائية على حدِ السيف دائماً، ويبقى الأمل أقوى من اليأس، والحلم سيتحول إلى حقيقة عاجلاً أم آجلاً، وسنبقى نحب الوردَ دائماً، ولكننا نحبُ الخبز أكثر !!!.
د. عبد الرحيم محمود جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com
الرياض 21/12/2011م الموافق 26/01/1433هـ