شكراً لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأمينها العام

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

في ظل الرياح الهوج والعواصف العاتية التي تعصف بالقضية الفلسطينية من كل مكان، وتهب عليها كالإعصار من كل الأقطار، فتلحق دماراً وخراباً في كل شئ تأتي عليه، فتقتل بلا رحمةٍ ولا شفقةٍ، وتدمر وتخرب بلا تمييزٍ ولا تقدير، وكأن الساكنين ليسوا بشراً، والقاطنين أقل من الحيوانات قدراً، وكأنهم لا يستحقون عيشاً ولا حياةً، ولا تليق بهم سلامة ولا كرامة، ولا يلزمهم دواءٌ ولا غذاءٌ، ولا ماءٌ ولا كساءٌ، أو كأن الأرض ليست لهم وطناً، والبلاد لم تكن يوماً لأجدادهم سكناً.

في ظل هذه الأخطار الكبرى التي تتربص بفلسطين وأهلها، وتتآمر عليهم وتتحالف ضدهم، وتحاصرهم وتضيق عليهم، وتعاقبهم وتشردهم، وتطردهم وتمزقهم، وتلحق أكبر الضرر بقضيتهم، التي تمر في أسوأ الظروف وأكثرها تعقيداً، وتواجه أشد المراحل قسوةً وظلماً على مدى قرنٍ من الزمان مضى، إذ يريدون تصفية القضية ووقف النضال، ونسيان الحق والتنازل عن الأرض، والتخلي عن العودة والقبول بالعوض.

وفي ظل صمت المجتمع الدولي الذي يقف صامتاً ومتفرجاً على ما يرتكبه الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، الذي يعمم ممارساته الفاشية وسياساته العدوانية على فلسطين كلها، فلا يستثني من اعتداءاته المتكررة القدس ولا الضفة، في الوقت الذي لا يتوقف فيه عن الاعتداء على غزة، وقتل أهلها وحصارهم، وعقابهم جماعياً وقهرهم، فلا ينتقد المجتمع الدولي سلوكهم ولا ينتفض، ولا يعارض ولا يمانع، بل يؤيد ويساند، ويعاضد ويساعد، ويمدُه بالمال والتقانة والسلاح، في الوقت الذي يشبعنا فيه كلاماً لا وزن له ولا قيمة، ولا أثر له ولا نتيجة، عندما يستنكر في الإعلام، أو يندد في الفضاء، فلا يُغضب العدوَ بفعلٍ ثائر، ولا يُرضي العربَ بردٍ موجعٍ حاسم.

في ظل هذه التحديات الصعبة، والمواجهات الشديدة، والضيق التام، وانسداد الأفق، وتعثر المسارات، وانغلاق العقول، وانطلاق الضواري من عقالها، انبرى وفدُ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين برئاسةِ أمينها العام ونائبه لزيارة مصر، وقد انطلقوا إليها بهمةٍ عاليةٍ وعلى عجلٍ، وبمسؤوليةٍ وطنيةٍ وغيرةٍ كبيرة، وشعورٍ بالأزمةِ صادقٍ، وإيمانٍ بالواجب الوطني المقدس الملقى على عاتق كل مسؤولٍ فلسطينيٍ صادقٍ مخلصٍ، مدفوعين بقوةٍ وحرصٍ على الشأن العام، ومصالح الشعب الفلسطيني العليا، وهمومه في الحياة والعيش الكريم، في وقتٍ عزَّ فيه اللقاء، وتعقد الاجتماع، وبات من الصعب التلاقي والتفاهم، بعد أن دب بين الأشقاء خلافٌ، ونشبَ بينهم سوءُ فهمٍ، انعكس على المواطنين، وعانى منه الشعب، وتضررت بسببه القضية.

وفدُ فلسطين إلى القاهرة، وإن اقتصر أعضاؤه على قيادة حركة الجهاد الإسلامي وحدهم، إلا أنهم كانوا في مهمتهم يمثلون فلسطين الوطن والشتات، وفي دورهم ينوبون عن الفلسطينيين كلهم، وفي حواراتهم كانوا يتحدثون بلسان كل فلسطينيٍ غيورٍ ومحب، ومعاني ومتألم، وشاكي وحزين، ومتأملٍ وحالم، وعاقلٍ وحكيم، فقد كانت أجندتهم فلسطين وجراحاتها، وغزة وعذاباتها، والمقاومة وآمالها، والجار وحقوقه، والشقيق وتقديره، والكبير واحترامه، وكانت عيونهم على الوطن وشتاته، وقلوبهم على التحديات التي يواجه، والصعاب التي يلاقي، والمهام التي يجب القيام بها، للعودة والنهوض، واللقاء والاتفاق، ولهذا تعلقت القلوب بهم، واشرأبت الأعناق ورنت العيون إليهم، وتابعت جهودهم، ورصدت حركتهم، وأيدت حواراتهم، وكانت معهم في خوفهم وقلقهم، واحساسهم بوجوب ردم الهوة مع مصر، وتقريب المسافات معها، وإنهاء الخلافات العالقة.

إنه وفد فلسطين بحق، يحمل الجرح الفلسطيني ويحس به، ويعيش معاناة أهل غزة ويعرف مدى ألمهم، وغاية حزنهم، وعمق مأساتهم، فهو منه وإلى فلسطين ينتمي، أحزنه ما يرى، وآلمه ما يشاهد، ولهذا كان لقاؤهم مع القيادة المصرية، واجتماعهم مع المسؤولين فيها، بأخوةٍ ومحبةٍ، وتفاهمٍ وحرص، وكان الحوارُ صريحاً وواضحاً، ومباشراً ودقيقاً، فلامس الهموم، وفتح الجروح، وكشف عن الغموض، وناقش الممنوع، ولم يقف عند المحرم، وأبدى حرصه على التفاهم معهم حول أفضل السبل وأنجعها للتصدي للمهام الوطنية الكبرى، ومحاولة إيجاد حلولٍ للمشاكل القائمة، وتفريج الأزمات المستحكمة، وأهمها محاولة إيجاد حلٍ لمعبر رفح الحدودي الذي يربط قطاع غزة بمصر والعالم، والذي بات يمضي عليه الأشهر الطوال قبل أن يفتح ليومين أو ثلاثة، مسبباً معاناة لا تنتهي، وألماً لا يفارق، وغربةً لا تجتمع، وشتاتاً لا يلتئم.

حركة الجهاد الإسلامي لا تعاني من مشاكل مع مصر، ولا تشكو من سوء المعاملة معها، ولم تنقطع سبل التواصل بينهما، ولم تتوقف زيارتهم إليها، ولم تغلق السلطات المصرية وسائل الاتصال معها، بل إنها تقبل بتوصيتها، وتقدر وساطتها، وتسهل طلبها، وتوافق على التنسيق باسمها، وتحترم من يصلها من طرفها، أو ينتسب إليها، ولكن حركة الجهاد الإسلامي ساءها تدهورُ علاقة مصر مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وهي صنوها في المقاومة، وشريكتها في الوطن، ورفيقتها في النضال، وهي تعرف قدرها ومكانتها، وتدرك دورها وحجمها، وتعترف بأنها سباقة ورائدة، وصادقة ومخلصة، وأنه لا يصح أن تكون علاقتها بمصر سيئة، إذ لا غنى للفلسطينيين عموماً وأهل غزة خصوصاً وقوى المقاومة عموماً عن مصر، التي تستطيع أن تلعب أهم الأدوار معهم وإلى جانبهم، كما أن بُعدَها وسوء العلاقة معها يقلب الأمور، وينعكس سلباً على الفلسطينيين وقضيتهم، ويعقد مسألتهم، ويسعد بالخلاف عدوهم.

لم تقف قيادة حركة الجهاد الإسلامي عند الحالة التنافسية التي تربطهم بحركة حماس، ولم تحكمهم المصالح الحزبية والمنافع الفئوية والمكاسب الفردية، ولم تستغل الظرف وتستفد من الاختلاف، بل كانت أكبر بكثيرٍ من هذه الحسابات الصغيرة، وتجاوزتها بحكمةٍ ومسؤوليةٍ وطنيةٍ عاقلةٍ وحكيمةٍ من أجل الوطن كله ومصالحه، والشعب وحاجاته، فطالبوا مصر بضرورة استعادة علاقتها بحركة حماس بل وتحسينها، وعابوا عليهم قيام محكمةٍ مصرية بوصف الحركة وجناحها المسلح كتائب الشهيد عز الدين القسام بالإرهاب، واخراجها عن القانون، وملاحقة ومحاسبة المنتمين إليها، ومصادرة أموالها وممتلكاتها ومنع نشاطها.

وقد كان لحركة الجهاد الإسلامي ما أرادت، إذ طرحت بصدق، وأصرت بيقين، وناقشت بمسؤوليةٍ وإخلاص، ففتحت مصر استجابةً لجهودها معبر رفح الحدودي، ووعدت بتحسين الحال وزيادة الأيام، وقبلت بوساطتها في رأب الصدع بينها وبين حركة حماس، ونقلت إلى السلطات المصرية تعهدات الحركة وثوابتها القومية تجاه مصر، وحرصها على أمنها وسلامة حدودها، ونبذها واستنكارها لكل العمليات الإرهابية التي تشهدها مصر، والتي يبدو بعضها دائماً متزامناً مع فتح معبر رفح، وكأنه يستهدفه، ويدعو السلطات المصرية لإغلاقه.

وفي الوقت نفسه سارعت الحكومة المصرية بالطعن على حكم محكمة الأمور المستعجلة التي قضت بأن حركة حماس وجناحها العسكري تنظيم إرهابي، وكأنها تمهد لاستدراك الأمر، وتصويب المسار، والعودة عن القرار، وعدم تحميل حماس جرائم لم ترتكبها، أو محاسبتها على الأصل والانتماء، أو معاقبتها بجريرة غيرها ومسار سواها، وبذا تكون قد بدأت في وضع علاقتها بحماس على سكة التفاهم العاقل، والاتفاق المسؤول.

حركة الجهاد الإسلامي تعيد كتابة تاريخها من جديد، تكتبه بمدادٍ من الصدق والإخلاص، وأقلامٍ من الحرص والوفاء، تماماً كما بدأ أمينها العام المؤسس الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، الذي سبق أن حمل الهموم الفلسطينية في ليبيا، فانبرى وحده إلى العاصمة الليبية طرابلس، ليناقش العقيد القذافي الأزمة، ويصل وإياه إلى سبلٍ لحلها، بما يخفف عن الفلسطينيين ويحفظ حقوقهم، ويمنع الإساءة إليهم، وكانت السلطات الليبية قد بدأت في طرد الفلسطينيين المقيمين على أرضها منذ عشرات السنوات، ودعتهم إلى العودة إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية اوسلو للسلام.

لكن الفلسطينيين المطرودين من ليبيا عذبوا واضطهدوا، وسلبت أموالهم وجردوا من ممتلكاتهم، وأقصوا من وظائفهم وطردوا من أعمالهم، وفتحت لهم مخيماتٌ ومعسكراتٌ مهينة، فما كان من الدكتور الشقاقي إلا أن بادر بنفسه، وسافر إلى ليبيا وهي المحاصرة، لينقذ شعبه، ويساهم في التخفيف عنهم، وهو وإن كان قد نجح في مهمته، وأدى الواجب الملقى على عاتقه، إلا أنه لقي في سبيله منيته شهيداً برصاصاتٍ غادرة، وقتل على أيدي عدوٍ مقيتٍ غاظه كثيراً غيرته، وأزعجته حميته، وأغضبه نجاحه، فما كان منه إلا أن قتله غريباً وحيداً في أحد شوارع مالطة.

لا نملك إزاء هذه الغيرة، القديمة الجديدة، الأصيلة الرفيعة، وأمام هذا الحرص، المتجرد من الذات، والمتعالى على الحزبية، والساعي بصدقٍ نحو المصالح الوطنية، إلا أن نحيي حركة الجهاد الإسلامي، ونشكر أمينها العام ونائبه على ما قدما من جهودٍ، وما حققا من انجازاتٍ، وندعو قيادة كل القوى الفلسطينية لأن تحذو حذوهم، وأن تسير على منوالهم، وأن تتخلى عن ذواتها، وتتنازل عن مكاسبها، وتعمل من أجل شعبها ومستقبل قضيتها، فنحن أقوياءٌ معاً، وكرامٌ إذا ما اجتمعنا، ويحترمنا الآخرون إذا ما اتفقنا، فبورك جهدكم أيها الكرام، وجزاكم الله عن شعبكم وأمتكم خير الجزاء.

بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي