الفلسطينيون يطحنون الماء ويلونون الهواء

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

قيادة السلطة ومعها قادة القوى والفصائل والأحزاب والتجمعات الفلسطينية المستقلة، جميعاً دون استثناء، وفي المقدمة منهم دائماً، حركتا فتح وحماس، الحاكمتان والمهيمنتان والمتفردتان والمسيطرتان والمتسلطتان، المتقدمتان للصفوف، والمتربعتان على السلطة، كونهما الأكثر عدداً والأوسع انتشاراً، والأقوى عدةً وعتاداً، والأعلى صوتاً هتافاً وشعاراً، والأكثر تمثيلاً إيماناً ومصالح، إذ أنهما أصحاب القرار والنفوذ، والرفعة والمكانة، ومن بيدهما السلطة وعندهما القوة، اللتان بهما يتحكمان في مصائر الشعب وأقوات الناس، ويفصلان في مصائرهم ويحكمان في أمرهم، ويتسلطان على حريتهم ويتحكمان في حقوقهم، فيقصيان أو يقربان، ويعاقبان أو يكافئان، ويحرمان أو يعطيان، ويسجنان أو يطلقان، وفق رغباتٍ محددة، وعلى قاعدةٍ شوهاء من المصالح الخاصة، والمنافع الحزبية، والمكاسب الفئوية، التي لا تعتمد المعايير الوطنية، ولا المصالح الشعبية.

كأن هؤلاء جميعاً لا يعرفون ماذا يريد شعبهم، وإلام يتطلعون، وما هي شكواهم وحاجتهم، وأين مصلحتهم ومنفعتهم، وما الذي ينقصهم وماذا يلزمهم، وكيف يعيشون ومن أين يقتاتون، وأين يعملون وكيف يكسبون، ومن يعمل منهم ويحرز قوت يومه وعياله، ومن منهم لا يستيقظ من نومه، ولا ينهض من فراشه، ومن يعاني سكرات الموت من البطالة وقلة العمل، ومن ضيق ذات اليد والعجز القاتل، والحاجة المذلة والسؤال المهين.

أو أنهم لا يعرفون كيف يسكنون وأين يقيمون، وهل عندهم بيوتٌ تسترهم، أو مساكن تجمعهم، وهل يتمتعون بخدماتٍ تريحهم وتقديماتٍ تخفف عنهم، وما إذا كانت الكهرباء تنير ليلهم وتبدد ظلام عيشهم، أو إن كانت مياه الشرب تصلهم، فتروي ظمأهم، وتسقي عطاشهم، وتمكنهم من قضاء حاجاتهم.

كأنهم يعيشون في كوكبٍ آخر وعالمٍ مختلفٍ فلا يعرفون معاناة شعبهم وأهلهم، ولا يدركون سبب شقائهم، ولا يلمون بما يجعل حياتهم جحيماً وعيشهم عذاباً، وأيامهم قهراً وليلهم سهداً وقلقاً، وعمرهم يذوي أمامهم وبين أيديهم كشمعةٍ اجتمعت عليها النار من كل مكانٍ فذوت بسرعة، وتلاشى فتيلها احتراقاً، فيموتون أو أولادهم، ويمرضون أو أحبتهم، ويرحلون أو أعزتهم، ويغرقون أو يموتون أو يقتلون أو يعتقلون لا فرق، فكل هذا موتٌ وغيابٌ وإن تعددت أسبابه واختلفت أشكاله، فهو فناءٌ كالعدم، وموتٌ من العدم.

إنهم إما عميٌ فزادهم الله عمىً وضلالاً، وطمس على قلوبهم وختم على قلوبهم، أو أنهم جهلةٌ ويظنون أنهم هم الأعلم والأدرى، والأكثر فهماً والأكيس رأياً، ولكنهم لجهالتهم لا يعرفون أنهم الأكثر جهلاً والأقل وعياً، فزادهم الله جهلاً وتيهاً وضياعاً، أو أنهم أغبياءٌ وسفهاء، فلا يعون ولا يدرون، ولا يفقهون ولا يفهمون، ولا يميزون ولا يفرقون، فيظنون أن شعبهم جاهلٌ لا يعلم، وغبيٌ لا يفهم، وسادرٌ لا ينتبه، وماضٍ فلا يلتفت، أو أنهم يظنون أنهم يجتهدون ويخلصون، وأنهم يحسنون صنعاً إذ يتمنعون، ويخدمون شعبهم إذ يختلفون، ويساعدون أهلهم إذ يتشددون، ولكنهم بهذا يضرون ولا ينفعون، ويسيئون ولا يحسنون.

ألا يدري هؤلاء المتربعون على كراسي السلطة والقوة، والمتمسكون بالمنفعة والحاجة، والمستفيدون من المنزلة والمكانة، والمنتفعون بالوظيفة والمهمة، أن شعبهم قد ملَّ منهم ويأس، وأنه تعب منهم وضاق بهم ذرعاً، وأنه يرى أنهم سبب مصيبته وعلته، وأنهم الذين يتسببون في معاناته ومحنته، وأنهم يضيقون عليه ولا يفرجون عنه، وأنهم يعمقون في مأساته ولا يخففون عنه، وأنهم يعززون نكبته ولا يسرون عنه، وأنه لهذا يحلم في اليوم الذي ينزلون فيه من على ظهره، ويتركونه وشأنه، فهو وحده أصدق منهم وأقوى، وأدرى بمصالحه وأعلم، وبدونهم أقدر على تحقيق أهدافه والوصول إلى غاياته.

ألا يدري هؤلاء المسكونون بالوهم، والساكنون في القمم، والحالمون بالمجد، أن شعبهم يريد الوحدة والاتفاق، ويريد العودة إلى المصالحة واللقاء، وأنه يحلم بوطنٍ واحدٍ، وشعبٍ واحدٍ، وحكومةٍ واحدة، وقرارٍ وطنيٍ مشترك، فهو قد ملَّ الفرقة والانقسام، وعاف التنابذ والاختلاف، وكره التحزب والتقوقع على الذات، وأنه لا يريد المزيد من التباعد والتناحر، ويكره الاتهامات والسباب والشتائم، ويرفض تبادل الاتهام بالمسؤولية عما يحدث، والسبب فيما يجري، فيما هم يسكتون عن الحال، ويقبلون بالواقع، ويعطلون الحل، ويؤخرون اللقاء، ويبطلون كل أسباب التفاهم والوفاق.

ألا تعلمون أيها القادة أن قطاعكم مدمرٌ، وبيوته خربةٌ منسوفةٌ، وشوارعه محفورةٌ ومنبوشة، وأسواقه معطلة، وبنوكه مفلسة، ومؤسساته عاطلة، ومشاريعه متوقفة، وأعماله مجمده، وبواباته مغلقة، وحاجة أبنائه معلقة، فلا سفر ولا مغادرة، ولا دخول ولا عودة، وشبابه ضائعٌ حائر، وتائهٌ مشتت، عزبٌ يعاني، وفقيرٌ يكابد، وباحثٌ عن الزواج فلا يستطيع، وساعٍ للبناء فلا يقدر، وطلابه بلا رسوم، وجيوبهم بلا دراهم أو قروش، ومرضاه ينتظرون الموت اهمالاً، وجرحاه يعانون من طول الأمد، وغياب العلاج وندرة الدواء وفقدان الأمل، ثم تتساءلون بغباء، وتناقشون ببلادة، ماذا يريد شعبنا، وماذا منا ينتظر.

أيها القادة المسؤولون، أيها الأمناء المحاسبون، بل أيها الضالون المضلون، أيها الفاسدون المفسدون، شعبكم قد ضحى كثيراً، وأعطى بلا حساب، وصبر بلا انتظار مكافأة منكم، ولا ثواباً من أمثالكم، وثبت على الأرض دون تشجيعٍ منكم أو تحريضٍ من سلطاتكم، وهو على استعدادٍ لتقديم المزيد والتضحية بالأعز والأنفس، لا حباً فيكم، ولا حرصاً عليكم، ولا فداءً لكم، أو قرباناً من أجلكم، إنما حباً في وطنهم، وحرصاً على أرضهم، وسعياً لتثبيت حقهم، وضمان مستقبلهم، واعلموا أن شعبكم أكثر وعياً منكم، وأكثر بصيرةً من خيركم، وأعظم اخلاصاً من أشرفكم، فلا تتاجروا به تجارةً بائرة، ولا تعقدوا به صفقةً خاسرة، ولا تراهنوا عليه ظلماً، أو تساوموا عليه قهراً، بل كونوا له عوناً، ومعه يداً وسنداً.

واعلموا أنكم تدفعون الشعب للملل منكم، والسأم من وجودكم، وتحرضونه للكفر بكم والتخلي عنكم، فأنتم أصبحتم بتكرار ما تبدأون، وإعادة ما تناقشون، واجترار ما تبلعون، وأكل ما تتقيأون، وكأنكم تطحنون الماء، وتلونون الهواء، وتدعون كذباً وزوراً أنكم أنتم الأصلاء النبلاء، وأنكم أنتم السادة العقلاء، ولكنكم في الحقيقة بلهاء، ولستم من أولئك ولا من هؤلاء.

بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي