"الطائفية السياسية وأمن الكيان الصهيوني"

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

مثلت عقدة الأمن والبقاء للكيان الصهيوني، إشكالية دائمة تلازمت مع نشأته ووجوده، وستستمر ما استمر وجوده العدواني على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه أسوة بكل شعوب الأرض، فإن قضية الأمن واستمرارها ستبقى القضية الأساس بالنسبة له، ولذا فإن نظرية أمن الكيان الصهيوني تتطور، وتأخذ أشكالا متعددة في كل مرحلة، وفق تقديراته الخاصة، لضمان أمنه واستمراره، بعيداً كل البعد عن مصالح محيطه الشرق أوسطي عامة، والعربي خاصة، لإصطدامه وتناقضه مع هذا المحيط، الذي يرى فيه جسماً غريباً عنه من مختلف النواحي، ويصعب دمجه وإستيعابه، بالصورة التي يطمع بالبقاء عليها، مما يضعه في حالة من الصدام والخوف المستمر والمتنامي، ذلك ما يدفعه بإستمرار لتطوير نظرياته الأمنية، التي استندت في الأساس إلى تفوقه العسكري المطلق على جيرانه، ودول المحيط العربي والشرق أوسطي مجتمعة، وإقامة أوثق العلاقات والتحالفات مع الغرب، خصوصاً منه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر أمنه جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الأمريكية، والبحث الدائم عن حدود طبيعية مستقرة وآمنة، رغم سقوط هذا المفهوم أمام تطور تقنية الأسلحة الصاروخية، التي بات يمتلكها الجوار، ليس على مستوى الدول، بل حتى على مستوى المنظمات والمليشيات، كما أنه لم يستطع أن يقتنع لغاية الآن أن إتفاقات السلام مع العرب كفيلة بتحقيق الأمن والدوام والإستمرار له، لأنه يشعر في بقاء الدولة الوطنية العربية على الصورة التي هي عليها وحسب تقسيمات ((سايكس بيكو)) لا زالت تمثل خطراً يهدد أمنه وإستقراره ووجوده، من هنا ولدت لديه نظرية الأمن الجديدة، والتي تستند أساساً إلى تقويض أركان ((الدولة الوطنية)) العربية، خصوصاً تلك الدول الوازنة في المنطقة، إقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، والتي تمتلك مقومات بناء وتحقيق الدولة الناجحة، يرى فيها تهديداً مباشراً لأمنه ووجوده، فلابد له من السعي إلى تقويضها، وتمزيق نسيجها المجتمعي، مقدمة إلى تفكيكها إلى أجزاء متناحرة ومتصارعة فيما بينها، بل ساعية بعضها للتحالف معه ضد البعض الآخر ...!!! وقد عرض الصحفي الهندي البريطاني كارينجا في كتابه خنجر إسرائيل لهذه النظرية في ستينات القرن الماضي، والتي تقضي إلى تقسيم الدول العربية على أسس إثنية وطائفية، ودينية ... ليتسنى لإسرائيل التفوق والبقاء الدائم، وتظهر حينها كحالة متماهية مع صورة المنطقة، وقد عرض لهذا السيناريو وزير الأمن الداخلي للكيان الصهيوني "آفي ديختر" في محاضرة له في تل أبيب عام 2008م قال فيها ((إن الدولة الوطنية العربية في شكلها الحالي مكونة بأسس غير طبيعية، والمطلوب تفكيكها على أسس دينية، وطائفية، وإثنية))، وقد كانت الحرب الأهلية في لبنان (1975- 1990) نموذجاً لهذه النظرية، وتعززت بالإطاحة بحكم شاه إيران عام 1979م وإسقاط الدولة الوطنية في إيران، لتحل محلها دولة طائفية شيعية بإمتياز، ولم تتوقف عند حدودها الوطنية، بل أخذت تزعزع أمن وإستقرار دول الجوار العربي لها، من خلال تصديرها لشعارات الثورة الطائفية السياسية، مستغلة المشاعر الغرائزية ذات الموروث الطائفي لدى البعض، المدمر لوحدة المجتمعات، والممزق لنسيجها المجتمعي، مقدمة لإفشال دولها، وتفكيكها إلى دول طائفية، وأيقظت في المقابل غرائز الطوائف الأخرى للرد عليها وعلى سياساتها بمناهج طائفية سياسية أخرى، مما يحقق الغاية والهدف في نهاية المطاف وهو إعادة تشكيل دول المنطقة وكياناتها على أسس إثنية وطائفية، يجد فيها الكيان الصهيوني مبتغاه، وأمنه الدائم والمستقر، وصورته التي يبحث عنها ككيان خاص باليهود، ويندمج في الخريطة السياسية الطائفية الدينية الجديدة للمنطقة، ويضمن فيها لنفسه موقع الصدارة والتفوق الدائم، والإستمرار وغياب التهديد الذي مثلته وتمثله الدولة الوطنية العربية لوجوده، فهل يدرك المغررون من العرب والمبتلون بداء الطائفيةِ السياسية مدى خطورتها على وحدة مجتمعاتهم ودولهم ومستقبلهم، ومدى الخدمة المباشرة التي يقدمونها للكيان الصهيوني الغاشم، المتربص بهم وبدولهم وبمجتمعاتهم، وضياع أملهم في مستقبل أفضل لهم ولشعوبهم ولطوائفهم ولأمتهم ؟!!!

إن التفكك والإنقسام والتنازع، والإرهاب الذي ينتشر في العديد من أقطار العرب، والذي يستند إلى تأجيج المشاعر الطائفية وتسييسها، لن يخدم هذه الطوائف، بل هو المدمر لها ولمجتمعاتها ولدولها، وسوف يضعها جميعاً في خدمة القوى الخارجية، الطامعة في الهيمنة والنفوذ على مقدراتها، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني، فلابد من التصدي لكل من يؤجج هذه الصراعات ويستثمر وينفخ في كيرها، حفاظاً على مصلحةِ الطائفة ووحدة المجتمع والدولة، وحماية الفرد ومصالحه ومستقبله، وضمان أمن وإستقرار وسلامة ووحدة الوطن، الحاضن للمجتمع بكل تنوعاته وثقافاته وإعتقاداته، فهل من مدرك، أو متبصر يضع حداً لهذا البلاء ؟!!!

بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس