بلسانهم لا بلساننا، وبكتابهم لا بكتابنا، وبنبوءاتهم لا بنبوءاتنا، وبشهادة حلفائهم من المسيحيين الجدد "الأنجليلكيانين"، الذين يناصرون اليهودية، ويساندون دولتهم الإسرائيلية، ويؤمنون بها إيمانهم بإنجيلهم، فإنه لا وجود في عقيدتهم لدولة إسرائيل، ولا مستقبل لها بين الأمم، ولا خير يرتجى لليهود في ظل وجودها، ولا مصلحةً لهم في استمرارها، وهذا من كتبهم وبشهادتهم، وليس افتراءً أو افتئاتاً عليهم، ولا محاولةً لحرف كلماتهم، أو لي أعناق نصوصهم، أو تحميل تصريحاتهم ما لا تحتمل، بل هي الحقيقة التي يدركها العالمون، ويتعلمها العامة الجاهلون بأمور دينهم من اليهود وأتباعهم، قبل أن تكون قرآناً يتلى، وآيةً في كتاب الله تحفظ، ونبوءةً عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تصدق.
رغم أن التوراة قد اعتراها التحريف والتغيير، وتبدل الكثير منها وغابت بعض نصوصها، إلا أن اليهود أكثر من يعلم يقيناً أن كيانهم زائلٌ، وأن دولتهم إلى تفكك، وأن شعبهم إلى شتاتٍ جديدٍ، وتيهٍ آخر، وأنه مهما طال الزمن وتأخرت الوقائع، فإن يوم الاستحقاق قادمٌ لا محالة، ووعد الله غير المكذوب عن أحبارهم سيكون، فهو منصوصٌ عليه في توارتهم، ومذكورٌ عندهم بأقلامهم في تلمودهم، ويعرفه المتدينون منهم والعلمانيون، ويؤمن به المسيحيون كما اليهود، ويرون أن الاستعداد لهذا اليوم واجبٌ، والتهيؤ له ضرورة، وإلا فإنه سيأتي بغتةً، وسيكون أثره على أجيالهم مدمراً، ونتائجه مأساوية.
إلا أن حاخامات اليهود الذين اعتادوا على تحريف كتابهم وتبديل نصوصهم، فإنهم يقومون بحذف النصوص التوراتية التي تتعارض مع أهدافهم، ولا تخدم مشاريعهم، وتلك التي تثبط عزائمهم، وتضعف همتهم، في الوقت الذي يثبتون فيه ما ينفعهم ويخدمهم، وما يتفق مع أهدافهم وسياساتهم، ويبررون ما يقومون به أنه لحماية وجودهم، وضمان مستقبل أجيالهم.
بعض اليهود المتدينيين يؤمنون بأن كيانهم الجديد قد آذن بالرحيل، ودق جرس الانطلاق، وأن الرب الذي وعدهم بالملك قديماً هو الذي أنذرهم بالرحيل في هذا الزمان، ولهذا فإنهم يعارضون استمرار الكيان، ومن قبل رفضوا تأسيس دولةٍ لهم، لأنها تتوافق مع البشارة، وتعجل في النهاية، وبعض هؤلاء يسكن فلسطين ويرفض الانخراط في الدولة العبرية، ممن ينتمون إلى الطائفة السامرية، وإن كان عددهم اليوم قليلاً، نتيجة عدم انتشارهم، وانحصار زواجهم ببعضهم، وعدم اختلاطهم بغيرهم، إلا أن رأيهم مقدر، وإيمانهم معززٌ بنصوصٍ وآياتٍ من توراتهم، وإن أخفاها البعض، فهي عند غيرهم بينةٌ ومعلومة.
وغيرهم يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، ومنهم جماعة ناطوري كارتا، وتعني حراس المدينة، وهي من أكبر الجماعات اليهودية في الخارج، التي ترى في قيام دولة إسرائيل غضباً للرب، ولعنةً من الله، ومخالفةً لنصوص التوارة، ورفضاً لتعاليم السماء، واعتراضاً على وصايا الأنبياء، ولهذا فإنهم حباً في شعبهم، وصدقاً مع دينهم، فإنهم لا يتركون مناسبةً سياسية إلا ويشاركون فيها، يبدون فيها مواقفهم، ويعبرون عن إيمانهم، ويدعون إخوانهم اليهود إلى التوبة والأوبة، والتراجع عن هذه الخطيئة الكبرى، التي ستعجل في فناء بني إسرئيل، وشطب وجودهم، وإنهاء نسلهم على الأرض.
جماعة ناطوري كارتا تعتقد أن الحركة الصهيونية قد أضرت بالشعب اليهودي وغدرت به، عندما استخدمت الدين مطيةً ووسيلةً للوصول إلى أهدافها السياسية، بل إنها استعملت الدم اليهودي في خدمةِ أغراضها، فكم قتلت يهوداً لتستدر عطف العالم، وكم أغرقت سفناً تقل مهاجرين يهود لتشعل نار الحرب، وكم خدعت العالم وابتزته، وغدرت به وخدعته لتصل إلى أهدافها بإنشاء دولةٍ غير شرعية، أطلقت عليها اسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"، الذي هو منها براء، ولو كان موجوداً بينهم لحمل سيفه وقاتل من أسسها.
إن من اليهود استناداً إلى نصوص دينهم، يرفضون الاعتراف بدولة إسرائيل، ويدعون إلى البراءة منها، والتخلي عنها، ويعتبرون يوم تأسيسها يوم شؤمٍ وعارٍ على الشعب اليهودي، وفيه يعلنون الحداد، وينكسون الأعلام، ويغلقون المحال، ويتوقفون عن العمل احتجاجاً ورفضاً، بل إنهم ينادون بإسقاط دولة إسرائيل وإعلان الدولة الفلسطينية مكانها، على كامل التراب الوطني الفلسطيني، ولا يتورعون عن وصف الدولة العبرية بالعنصرية والفاشية والدموية، وأنها تخالف القوانين الدولية التي تنص التوراة على احترام العرف والعادة.
الأحبار اليهود يحتكرون المعرفة، ويخفون الحقيقة، ويتعمدون تزوير الحقائق والتاريخ، ويريدون من العالم أن يصدق كلامهم، وأن يؤمن بروايتهم، وأن يعمل في خدمة مشروعهم، تحقيقاً لأهدافهم السياسية، وهي أهدافٌ غير مشروعة، تقوم على اغتصاب حقوق آخرين، واحتلال أرضهم وطردهم منها، والنصوص الدينية الخفية والمعلنة، اليهودية والمسيحية، على ذلك كثيرة، وعلى كل ذي عقلٍ أن يتفحص فيها، وأن يقرأها بتمعنٍ وعقل، وسيدرك أن اليهود يخالفون دينهم بإعلانهم دولة إسرائيل، ويعارضون وصايا الرب بالاجتماع في أرضٍ واحدةٍ ستكون سبباً في مقتلهم وإبادتهم.
أحبار اليهود الكبار يؤمنون أن الله قد عاقبهم بالتيه قديماً، ثم عاقبهم بالسبي سنيناً، وعاقبهم بالطرد كثيراً، وبالاضطهاد لأخطائهم دوماً، وأن مصيرهم الأخير سيكون وبالاً عليهم وعلى أجيالهم القادمة، إن هم مضوا في مخالفة التوراة، وعدم الإلتزام بالتعاليم، ولهذا فإنهم يدعون أبناء ملتهم إلى العودة إلى الدين الأصيل، ومفاهيمه الأولى، لأن فيها النجاة من مصيرٍ يتعقبهم ويلاحقهم، وقد ذاقوا مرارته كثيراً، وعانوا منه مراراً.
النصوص التوراتية المؤيدة لما استعرضت كثيرة، وليس المقال مقامها، ولكني أورد عليها مثالاً واحداً فيه ما يغني، وبه ما يفيد، ويكشف عن فساد الإسرائيليين وانحرافهم "اسمعوا هذا يا رؤساء بيت يعقوب, وقضاة بيت إسرائيل الذين يكرهون الحق, ويعوجون كل مستقيم, الذين يبنون صهيون بالدماء, وأورشليم بالظلم, رؤساؤها يقضون بالرشوة, وكهنتها يعملون بالأجرة"،" إنكِ لو اغتسلت بالنطرون، وأكثرت من الأشنان
لا تزالين ملطخة بإثمكِ، يقول السيد الرب: كيف تقولين لم أتنجس"،" إن في نجاستك فجوراً، لأني أردت أن أطهرك فلم تطهري، ولن تطهري بعد اليوم من نجاستك إلى أن أريح فيك غضبي".
فهل يصدق فعلنا نصهم، ويوافق عملنا قولهم، وتكون لمقاومتنا كلمة الفصل في خاتمتهم، وكتابة آخر فصول وجودهم، ويكون جيلنا هو الجيل الذي يحقق وعد الآخرة، ويطهر الأرض المباركة من رجسهم، ويستعيد منهم القدس عاصمةً لفلسطين، وقبلةً أولى للمسلمين.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 26/7/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]