حول تجديد شرعية "منظمة التحرير"

بقلم: هاني المصري

هل استقال الرئيس الفلسطيني وبقية الأعضاء الذين أُعلِن عن استقالاتهم أم لم يستقيلوا؟ نفى صائب عريقات الاستقالة (ليبرر على ما يبدو انتخابه أمينًا للسر في جلسة الاستقالة نفسها)، برغم تأكيد غسان الشكعة وعدد آخر من أعضاء اللجنة التنفيذية المستقيلين الخبر، إلى أن حسم الرئيس الأمر بتأكيده استقالته وزملائه من التنفيذية.

ما يجري على الساحة الفلسطينية منذ فترة ليست بالقصيرة يدل على أن القضايا الكبرى تضيع في خضم الأحداث والمصالح الصغيرة. فهناك حالة من الشيزوفرينيا تجتاح القيادة الفلسطينية وتلقي بظلالها على القوى والأشخاص المحيطين بها.

تظهر الشيزوفرينيا في تصريحات أعضاء اللجنتين التنفيذية لـ "المنظمة" والمركزية لـ "فتح"، وفي ما جاء في بيانات وتصريحات قوى وأمناء عامّين وقيادات مختلفة؛ إذ طالبوا بعقد جلسة عادية للمجلس الوطني، في الوقت الذي يدافعون فيه عن عقد جلسة غير عادية. لدرجة أن بيانين مختلفين لفصيلين يساريين احتويا على الموافقة على الدعوة إلى جلسة عادية وجلسة غير عادية في الوقت نفسه.

الأمر نفسه نراه في كيفية التعامل مع دعوة "حماس" و "الجهاد" إلى المشاركة، فقياديون من "فتح" وفصائل هامشية وأخرى غير هامشية يتحدثون الشيء وعكسه في الوقت ذاته، فهم يقولون إن "حماس" لا تريد المشاركة من دون أي دعوة جدية لها بالمشاركة، ومن دون إشراكها في اللجنة التحضيرية، بل إن قائدًا يساريًا فسّر عدم دعوة "حماس" بأن رفضها المشاركة في حال دعيت سيعزز الانقسام وكأن عدم دعوتها سيعزز الوحدة!

والشيء نفسه يظهر بشكل أكثر مأساوية عند الحديث عن جدول أعمال المجلس الوطني المقبل، فالكل يعلم أن جدول أعمال الجلسة غير العادية ليس جدولًا كاملًا، ويكاد أن ينحصر في ملء الفراغ الناجم عن الاستقالة، وأكثر ما يمكن أن تشهده هو عبارة عن نقاش سياسي، فليس من اختصاص الجلسة غير العادية تقييم المرحلة الماضية واستخلاص الدروس والعبر والمساءلة والمحاسبة وتغيير البرنامج السياسي.

مسألة أخرى تدور في الكواليس أكثر مما تناقش علنًا، وتحدثت لي عنها قيادات فلسطينية عدة، وهي أن الرئيس يريد من خلال دعوة المجلس الوطني إلى الانعقاد تجديد شرعية "منظمة التحرير" وحمايتها من الأخطار الداخلية والخارجية التي تتهددها، بما فيها خطر توصل "حماس" إلى اتفاق مع إسرائيل حول تهدئة طويلة الأمد، تمهيدًا لخروجه الآمن، وتحميله الأمانة لخلفه أو خلفائه لكي يواصلوا المسيرة. أي أنه لذلك مستعجل جدًا، لذا اختار الدعوة إلى جلسة غير عادية، لأن الجلسة العادية تحتاج إلى تحضير لأشهر عدة، بينما التحضير لجلسة غير عادية يستغرق بضعة أسابيع.

أليس غريبًا أن قوى "ميكروسكوبية" ممثلة في اللجنة التنفيذية الحالية وأخرى تطمح بالتمثيل في اللجنة المقبلة هي التي تتصدّر المشهد وتطالب بالعقد السريع للمجلس حفاظًا على مصالحها الفئوية، التي لن تحصل عليها إذا تم التحضير للمجلس بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي؟

هل الهدف تحقيق خروج آمن وسريع للرئيس، أم مخرج آمن يقوده الرئيس للشعب والقضية، ويمكّنه من الاطمئنان إلى أن السفينة الفلسطينية ستكون قادرة على السير برغم العواصف العاتية. وأليس أفضل وأكرم للرئيس إذا أراد خروجاً آمناً أن يكون بعد توحيد، أو على الأقل بعد عمل جدي على توحيد الشعب بمختلف تياراته، ووضع أقدامه في بداية مسار جديد بعد فشل المسارات السابقة؟

إن التحضير الارتجالي والسريع لعقد جلسة غير عادية للمجلس الوطني سيؤدي إلى بث الخلاف والوقيعة داخل المنظمة وداخل كل فصيل وبين المستقلين كما حصل فعلًا، على خلفية إذكاء روح المنافسة الفردية على من يفوز بعضوية اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي. وهذا في أحسن الأحوال سيؤدي إلى انتخاب لجنة تنفيذية مشكوك في شرعيتها، لأن انتخابها تم في مجلس بمن حضر، وبإقصاء يعطي ذريعة لمقاطعة قوى ذات وزن شعبي كبير لا يمكن إنكاره.

وتكمن الخشية في أن تغليب هندسة المؤسسات على مقاس شخص واحد أو لون واحد لا يقود بالضرورة إلى خروج آمن وسريع، إنما قد يقود إلى بقاء طويل وإلى تجديد البيعة، أو إلى خروج غير آمن لا للرئيس ولا لشعبه ولا لقضيته.

إن المانع - على الأرجح - للدعوة إلى عقد جلسة عادية، يتمثل في كونها تتطلب عقد المجلس بجدول أعمال كامل، وما يعنيه ذلك من تقديم اللجنة التنفيذية تقريرًا شاملًا عن عملها وعن ضرورة تغيير البرنامج السياسي، لأن برنامج المفاوضات عبر "أوسلو" أوصلنا إلى كارثة تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والانقسام وتهميش القضية. كما أن الجلسة العادية تحتاج إلى نصاب يتمثل بمشاركة ثلثي أعضاء المجلس، أي حوالي 500 عضو، وهذا العدد غير مضمون حضوره، لا سيما إذا قاطعت "حماس" و "الجهاد" وأعضاء مستقلون الجلسة، إضافة إلى الذين لن يتمكنوا من الحضور بسبب عدم حصولهم على الرقم الوطني، أو رفضهم الحضور تحت الاحتلال، أو لعدم إعطائهم تصريحاً من قبل إسرائيل لكون الجلسة - كما أعلن مسبقًا - ستعقد في رام الله.

يكمن الحل في التمسك بخيار الدعوة إلى عقد جلسة عادية وتشكيل لجنة تحضيرية من أعضاء الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، أو بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، لا سيما الموقعين على "اتفاق القاهرة"، تتولى تحضير الملفات القانونية والسياسية، على أن يتم اختيار عاصمة عربية يتمكن جميع أعضاء المجلس الوطني من الوصول إليها والمشاركة في الجلسة. وإذا لم يتوفر النصاب لسبب أو لآخر، مثل مقاطعة "حماس"، التي ستتحمّل في هذه الحالة المسؤولية الكاملة عنها وحدها، عندها تتوفر الظروف القاهرة التي تنص عليها الفقرة (ج) من المادة 14، التي تمكّن من عقد جلسة غير عادية بمن حضر، ولا يكون الحل بخرق النظام الأساسي للمنظمة بالقفز إلى الاستثناء (الفقرة (ج) من المادة 14) قبل استنفاذ القاعدة العامة المنصوص عليها في الفقرتين (أ) و(ب) من المادة نفسها، اللتين تنصّان على ضرورة ملء الفراغ في اللجنة التنفيذية من قبل مجلس بكامل أعضائه عبر جلسة عادية.

إن الشراكة على أساس عقد اجتماعي وبرنامج سياسي جديد يلتزم بهما الجميع هي كلمة السر ومفتاح الخلاص الوطني. وإن عدم استعداد القوى، وخاصة حركتي "فتح" و "حماس" للشراكة، وتغليب القوى الأخرى، خاصة "الميكروسكوبية"، لمصالحها الفئوية ومصالح قياداتها وأمنائها العامين على المصلحة العامة، هو الذي يمنع تشكيل مجلس وطني جديد، كما جاء في "اتفاق القاهرة"، أو دعوة المجلس القديم نفسه إلى الانعقاد، مع الحرص الجدي على مشاركة مختلف تيارات الشعب الفلسطيني وقواه في أماكن تواجده جميعها.

هاني المصري