اكتشفت أوائل الثمانينات أن لنتانياهو تنظيرات في مكافحة الإرهاب. وقد كتب مستنداً إلى كونه ضابطاً صغيراً في وحدة قيادة الأركان الإسرائيلية المُختارة، كتاباً حظي حينذاك باهتمام لأنه كان شعبوياً وتسطيحياً في طرحه. فعلى رغم مضيّ أكثر من 35 عاماً على صدوره، لم يجد نتانياهو ولا غيره من قيادات إسرائيلية أي ردّ على ما يسمونه "إرهاباً"، وهو صفة يُطلقونها على حيوية المسألة الفلسطينية وراهنيتها حتى لو لم تنطلق من الفلسطينيين رصاصة واحدة.
نتانياهو الذي نظّر بعنجهية يمينية وذهنية عسكرانية متبجحة بأن لا مساومة مع "الإرهاب"، لم يشذّ في تعامله مع الظاهرة الفلسطينية عن سابقيه عدا كونه أكثر تبجحاً وأكثر مُضياً في مسار إدارة الصراع لجِهة تغييب المسألة أو جعلها مجرّد هاجس أمني أو بعض متاعب أو إخلال بالنظام هنا وهناك. فاوض كغيره وعقد صفقات وساوم. لكنه على شعبويته، يُراهن على إمكان إخضاع السلطة الوطنية ومؤسساتها لسياسات إسرائيل الرسمية وغاياتها. وهو أمر لم يحصل في الماضي ولن يحصل، وإن بدا لبعض الفلسطينيين أن التنسيق الأمني القائم مع إسرائيل ضرب من العمالة أو حماية للمشاريع الإسرائيلية، وهو ليس كذلك.
وأنا أكتب هذه السطور كانت الاستعدادات لعقد جلسة عاجلة للقيادات الأمنية الإسرائيلية جارية، وكان الصحافيون يضبطون كاميراتهم وعدساتهم لتسجيل ما سيصدر عن نتانياهو بعد الجلسة. ومع هذا لا أتوقّع أي شيء جديد سوى تشديد القبضة الاحتلالية وزيادة وجبات القمع للفلسطينيين وسيل من التهديدات للسلطة الوطنية وإنشاءات لفظية تتهمها بالتصعيد والتحريض. ولن أستغرب أن يتمّ ربط ما يحدث الآن في أرجاء الضفة الغربية والقدس بحركات الإسلام الجذري في المنطقة.
وسيكون الكلام كالعادة موجّهاً أساساً للإسرائيليين الذين يسألون ويلحون بأسئلتهم على نتانياهو الذي مَوْضع نفْسه شخصية أمنية وخبيراً في الإرهاب.
علينا أن نشير هنا إلى حقيقة أن التصعيد الحالي بدأته حكومات نتانياهو، بخاصة في محيط الحرم القدسي. وأعتقد أن القيادة الإسرائيلية أرادت بالتصعيد قبل انعقاد هيئة الأمم المتحدة، التخريب على مساعي أبو مازن وخطابه ونهجه الديبلوماسي وتشويه طروحاته للمسألة الفلسطينية وحلّها. وهو ما فشل تماماً، الأمر الذي أربك ولا يزال القيادة الإسرائيلية التي بادرت مرات عدة في السابق إلى تصعيد محسوب ما لبثت أن فقدت السيطرة عليه. وأرجح أن القيادة الإسرائيلية الآن مُربكة في مستويين، ميدانياً واستراتيجياً.
أفشل الفلسطينيون نوايا إسرائيل التصعيدية قبل انتهاء جلسات الهيئة العامة للأمم المتحدة بدلالة أنهم لم ينجرّوا إلى مواجهات، عدا نقاط تماس محدودة قائمة بمبادرة فلسطينية تعارض بناء جدار الفصل العنصري أو تناهض مشروعاً استيطانياً. فالتوترات الميدانية محصورة في مناطق تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي والشرطة كما هي الحال في القدس الشرقية المحتلة. وأفشلوها في المستوى الاستراتيجي كما جسّد ذلك أداء السلطة الوطنية وخطاب أبو مازن الأخير أمام العالم الذي نسف أوهام نتانياهو بأنه في شروط الفوضى العربية ومعمعان الحروب المفتوحة يُمكن تغييب المسألة الفلسطينية أو رميها جثة هامدة في جرف "داعش" أو إيران.
ليس لإسرائيل الآن أي عقيدة قادرة على نقلها إلى مربّع الأمن والاستقرار، بخاصة أن دول الجوار تغلي وتضطرب. هذا، فيما يضغط المشروع الاستيطاني بكل قوته كي تتخذ الحكومة إجراءات لتحقيق الأمن. وهي تعدم كل تصوّر قابل للحياة سوى القمع والمزيد من القمع اللذان سيشّكلان في هذه المرحلة رافعة تصعيد لا يُمكن ضبطه أو حساب تبعاته. وبمعنى ما وصلت إسرائيل الرسمية إلى طريق مسدود لن أتفاجأ إذا ما أفضى إلى انتخابات جديدة أو سقوط الحكومة والذهاب إلى تشكيلة جديدة.
في المقابل، وبسبب انتقال المسألة الفلسطينية إلى مسارات ديبلوماسية في مركزها التدويل التصاعدي، فإن ما تطرحه السلطة الوطنية هو المخرج الأكثر وعداً لإسرائيل حكومة وشعباً.
يحلو للبعض أن ينعت السلطة الوطنية بشتى النعوت التحقيرية وأن يصف رئيسها بما يُخجل، لكن "ضعف" هذه السلطة هو مصدر قوتها وسرّ ديمومة وحيوية المسألة الفلسطينية إلى اليوم. وهو العامل الذي ينزع فتيل التصعيدات والاستفزازات الإسرائيلية. بمعنى، أن لا مخرج لإسرائيل الرسمية وإن تمتّعت بتفوق عسكري، بينما المخرج هو في الأفق الذي تقترحه السلطة الوطنية التي تعدم بنفسها ومنهجيتها أي خيار عسكري وتفتح مسارات التفاوض العملي - لا من أجل التفاوض. وأستهجن أولئك الفلسطينيين المولعين بالهتافات العسكرية والقتال والبطولات فيما قضيتهم أقوى من دونها لأنها تتجه نحو التدويل العملي في واقع دولي متعدد القطب.
من هنا، لن تفيد الإسرائيليين تنظيرات نتانياهو عن الإرهاب وتشديد قبضة الاحتلال. فيما سيُشكّل مسار أبو مازن والنضالات الفلسطينية المدنية رافعة قوية الدفع باتجاه تحرير القيادة الإسرائيلية من وهمها، وإن كنا نتوقّع أن تحاول هذه القيادة كل شيء لإثبات عقيدتها السياسية والأمنية القائلة بإمكانية إدارة الصراع حتى يوم القيامة من دون حله.
مرزوق الحلبي/ الحياة اللندنية