من غير المعقول أن تنجح مقالة أسبوعية واحدة بحصر كل الفوارق بين ما يجري من مواجهات في هذه الأيام على نقاط التماس الفلسطيني الإسرائيلي، وبين ما جرى في موجات الغضب الفلسطيني والمقاومة السابقة، التي عرّفت، أحيانًا، بانتفاضات وأحيانًا بهبّات، وأخرى اكتفت بكونها مواجهات هنا وعمليات هناك!
فلعل أبرز ما رافق أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، على سبيل المثال، علاوة على اعتمادها الحجر وسيلة للمقاومة الشعبية والواسعة، كان التحكّم بمجرياتها من قبل ما عرف بـ"القيادات الوطنية الموّحدة"، التي اعتمدت على مشاركة مندوبي الفصائل الوطنية الأساسية والأعضاء في منظمة التحرير، حيث ضبطت تلك القيادات نبض العمل الثوري بشكل يومي ومباشر، مع قوى الشعب، ووفقًا لاستراتيجية واضحة ووسائل مقاومة مدروسة ومنتخبة، والأهم، برأيي، كان حرص تلك القيادات المتعاقبة، بسبب كشفها من قبل الإسرائيليين واعتقال أفرادها لأكثر من مرّة، على احترام علاقة تراتبية واضحة مع قيادات المنظمة في تونس، بحيث لم يبق شعار "منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، شعارًا خاويًا من معنى، بل صار تاجًا وقالبًا لحالة سياسية وطنية، تجلّت بأسمى صورها الوطنية المقاومة، بحيث أجبرت، في النهاية، قادة إسرائيل والعالم، في تلك السنوات، على التوقف عن التفتيش أو محاولات خلق قيادات فلسطينية بديلة لمنظمة التحرير، محاولات بدأت بفشل حلم احتلالي سعى لبناء ما سمي "بروابط القرى"، تلاه فشل بإيجاد بدائل "وطنية" محلية وغيرها، تكون مستعدة للتعامل مع سلطات الاحتلال، فصارت تونس، بعد انهيار جميع تلك المحاولات، هي العنوان الوحيد وإليها توجّه العالم ومنها تداعت خيوط التاريخ وما فتئت تتداعى.
لوهلة يبدو التحرّش اليهودي بمكانة المسجد الأقصى عاملًا مشتركًا في تفجير هذه الموجة الشعبية المتفاعلة، كما كان في عام 2000، ولئن كان في هذا المشهد ما يستدعي المقاربة، إلّا أن التشابه يبقى بعيدًا والاختلاف في العديد من العوامل والمعطيات والظروف العامة هو الأصح، خاصة ونحن نعرف اليوم ما شاب الانتفاضة الثانية من التباس؛ فظروف نشوبها كانت تختلف عن سابقتها، وأهدافها السياسية كانت غير واضحة للملأ، ولذلك اكتنف ضباب كثيف بعض مراحلها، وشوّش على نجاعة ومصداقية كفاحها المسلّح الذي اعتمد كوسيلة أساسية للمقاومة.
من الواضح أن ما نشاهده اليوم في شوارع الضفة الغربية المحتلة ومداخل مدنها مختلف عما شاهدناه في الانتفاضة الأولى، وأهم الاختلافات، برأيي، هو غياب تلك القيادة الميدانية الموحّدة، التي يركن على صواب اختياراتها الاستراتيجية، وعلى الحكمة بانتقائها وسائل المقاومة المجدية في الظروف والمعطيات القائمة، في مناخ الانقسام الداخلي وبعد أن خسرت الفصائل الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، كثيرًا من حجمها الجماهيري، وقوتها التنظيمية، ومصداقياتها الأيديولوجية.
ومن ناحية أخرى نرى أن ما يجري لا يمكن اعتباره مقاومة مسلحة، على غرار ما شهدناه في الانتفاضة الثانية، مع أنني بدأت أخشى أن تتدحرج الأحداث في منزلق العمليات شبه العسكرية والانتحارية التي بدأنا نشتم أن هنالك من هو معني بتفجيرها وتسعيرها.
هنالك عدم استقرار في مستوى المواجهات، وفي بعضها تجيء كردود فعل على اعتداءات سوائب المستعمرين واستفزازاتهم الدموية، التي تتطور إلى صدامات مع جيش الاحتلال الذي يتصرف بعنف مستشرس لا مبرر له على الاطلاق، بينما تشهد بعض المواقع مواجهات بدأت، في الأيام الأخيرة، تأخذ طابع الروتين والجدولة المتكررة، التي تعتمد على ساعات انتهاء اليوم الدراسي لطلاب المدارس، وهذه ظاهرة نعرفها من هبّات شعبية سابقة، كما يميّزها أن رحاها تدور في أطراف المدن والقرى، وبمداورة تلقائية بين المواقع، بحيث تترك مراكز تلك المدن ومعظم نواحيها بعيدة عن تلك المواجهات، وبما يتيح لأغلبية السكان فيها الاستمرار بحياتهم بشكل طبيعي وعادي.
لا أكتب من أجل التيئيس، ولا من باب ترخيص ما يجري، بل لوضع الأمور في نصابها وفهمها بقدر الإمكان، فعندما قابلت، في هذه الأيام، عشرات الأشبال الأسرى والبالغين في سجون الاحتلال ومحاكمه، واجهت تلك الابتسامات العريضة تندلق من وجوه غضة، لم يستطع قمع الاحتلال محو سمرتها، التي هي بلون الأرض في فلسطين، فتذكّرت تلك الجحافل في الانتفاضة الأولى واسترجعت ذلك اليوم الذي قلت فيه للجندي وهو يرفع بندقيته في وجهي ووجه الشبل الذي كنت أحتضنه: ما أحقرك! ما أخسأك!، ألا تشاهد من المهزوم في هذه المعركة؟ لقد هزمتكم بسمات هذه الأشبال وعزائمهم، إنهم أجيال تولد في غرف التحقيق وتفيق، وعصيّكم جعلت من هذا الشعب نهرًا/ وأبناء فجر، يخلقون بسواعد من حديد، ويشبّون مثل الصبح بإرادات من حرير. فككثيرين تفاءلوا، تفاءلت أنا أيضًا بمشاهدة هذه الجموع، أو من سماهم البعض أجيال أوسلو وما بعد أوسلو، وهي تفيق وتتدفق بصدور عارية صوب فوّهات الحقد والعاصفة، لكنني، وأنا أقف على حاجز قلنديا وأمامي يقهقه جنود الاحتلال باستعلاء وعجرفة، أدعو وأرجو ألّا تذهب هذه الدماء الفلسطينية سدى، وألّا تداس هذه الزنابق تحت نعال العابثين، ولا تلقى هذه القلوب على مذابح المقامرين المنتفعين. لا للاحتلال، هي الصرخة الأهم المدوّية من هذه الحناجر، ومثلي يرى كثيرون من العرب وأحرار العالم، في فلسطين الوعد والأمل، ولذلك لا نريد لهذه الصرخة أن تُغتال في العدم؛ لأن الواقع والتجربة يخِزاننا ويصحّياننا على أن الاحتلال سيطبق عامه الخمسين، وقد خبر كيف يبتلع هذا الموج، وقد كان في الموجات السابقة أكثر صخبًا وغضبًا واندفاعًا. فكيف لي أن أهدأ؟ وكيف لهذا النور الفلسطيني أن يبقى فيّاضًا، ويذكّر بقيامة شعب، يثبت، مجددًا، أنه لا ينفك يولد وفي دمه جينات المقاومة موروثة.
وأخيرًا، "انظروا إلى الأيام كيف تسوقنا/ قسرًا إلى الأقدار بالأقدار" واتعظوا! فأهل فلسطين المحتلة يبقون أدرى بدروبها وميادينها، والأحداث فيها تأخذ مجاريها في مناخات عالمية وعربية وإسلامية وفلسطينية تختلف، بشكل جذري، عمّا ساد في الماضي، وفي واقع اجتماعي وسياسي إسرائيلي مقلق ومستفز، يطغى فيه توحش إسرائيلي جديد وغير مسبوق، يحلو للبعض أن يعزوه لضعف المجتمع الإسرائيلي وتخبّط حكّامه، بينما أراه انعكاسًا "طبيعيًا" وخطيرًا، لحالة سائدة في مجتمع فقدت أكثريته المطلقة آخر كوابحها القيمية والقانونية، وهي لهذه الأسباب تشكل تحدّيًا صارخًا وصريحًا، لا سيّما بالنسبة لنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل؛ فَلَكم قلنا إننا بحاجة إلى عزيمة وإصرار متوّجين ومقودين بحكمة ومسؤولية، ربما هي التي استدعت إصدار قيادة القائمة المشتركة بيانها الواضح والمباشر والذي خاطبت فيه المجتمع اليهودي، وعبّرت أمامه عن موقف هذه القيادة المعارض لاستعمال السلاح من قبل المواطنين العرب، كما جرى في عملية بئر السبع، حسب ما ادّعته قوات الأمن الإسرائيلية، لأن نضال جماهيرنا يجب أن يكون نضالًا سياسيًا وشعبيًا، عنيدًا وحازمًا! ويبقى بعيدًا عن المغامرات والمزايدات. فهل من خطوات لاحقة؟
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس