تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة لاعتماد وثيقة "مسؤولية الحماية" التي تشكل حجر الزاوية في اعتماد مجموعة مبادئ توافق عليها المجتمع الدولي، من خلال إقرار الوثيقة في الجمعية العامة عام 2005، بهدف منع جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. والوثيقة تقوم على ثلاثة أعمدة أساسية في الجهود لتنفيذها: مساندة الدولة قانونيا واقتصاديا وسياسيا لحماية شعبها من الجرائم المذكورة، فإن كانت الدولة عاجزة عن تأمين الحماية تتحول المسؤولة إلى المجتمع الدولي في تأمين الحماية، أما إذا كانت الدولة هي المسؤولة عن تلك الجرائم فتصبح مسؤولية المجتمع الدولي تأمين الحماية للمواطنين من بطش الدولة.
طلب حماية الشعب الفلسطيني
كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد بعث برسالة رسمية لمجلس الأمن في صيف 2014، ووزعها رئيس مجلس الأمن بتاريخ 21 يوليو 2014 كوثيقة رسمية يطالب فيها "بوضع أراضي الدولة الفلسطينية تحت نظام الحماية الدولية، التابع للأمم المتحدة، لتحقيق هدف تأمين الحماية للشعب الفلسطيني".
وقد أثيرت مؤخرا مسألة الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، سواء في كلمة الرئيس عباس في الجمعية العامة (28/9/2015) أو كلمة وزير الخارجية رياض المالكي في مجلس الأمن (22/10) أو كلمة عباس أمام مجلس حقوق الإنسان (28/10) في ظل ما يتعرض له من مجازر يومية من قبل دولة الاحتلال. فممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة تعتبر غير شرعية، حيث تعمل ببطء على تفريغ فلسطين من كل الفلسطينيين وبأساليب منوعة تقوم على العنف والتخويف… وكلها جرائم تندرج تحت واحدة من الجرائم الأربع الكبرى المذكورة أعلاه. وفي الوقت نفسه تعمل إسرائيل على المراوغة السياسية والدعوة إلى المفاوضات المباشرة والادعاء بمد يد السلام وتقمص دور الضحية دائما، وتصنيف كل ما يمارسه الشعب الواقع تحت الاحتلال نوعا من الإرهاب أو التحريض. ولا يمكن لإسرائيل أن تمارس هذه البلطجة والانتهاك الدائم للقانون الدولي لولا مظلة الحماية التي تؤمنها لها الدولة الإمبريالية الأقوى وهي، الولايات المتحدة.
سوابق الحماية الدولية في الأمم المتحدة
طلب رئيس مجلس الأمن لشهر أكتوبر الماضي الممثل الدائم لإسبانيا، رومان أويارزون ماشيستي، من الأمين العام للأمم المتحدة أن يقدم لمجلس الأمن الوثيقة التي أعدتها الدائرة القانونية في المنظمة الدولية، بعد تلقي طلب الحماية من الرئيس الفلسطيني صيف 2014. والدراسة مكونة من 42 صفحة، وتحتوي على مراجعة لعدد من سوابق الحماية التي اضطلعت بها كل من عصبة الأمم والأمم المتحدة. وسنقتصر في حديثنا على ثلاثة نماذج للحماية قامت بها الأمم المتحدة، ثم نجيب عن السؤال هل يمكن للأمم المتحدة تأمين الحماية للشعب الفلسطيني؟
تيمور الشرقية 1999- 2002
صنفت الأمم المتحدة جزر تيمور الشرقية الخاضعة للبرتغال عام 1960 بأنها "أراض لا تحكم نفسها"، ومن حقها ممارسة "حق تقرير المصير" بعد انسحاب الاستعمار. انسحبت البرتغال من الجزيرة عام 1975، فاحتلتها فورا أندونيسيا وأعلنتها ولاية إندونيسية، لكن الجمعية العامة رفضت الضم في قرارها 31/53 عام 1976. بدأت ثورة مسلحة تطالب بالاستقلال منذ عام 1975 بقيادة شنانا غوسماو. بعد نهاية الحرب الباردة وتصاعد حركة الاستقلال، ارتكبت أندونيسيا عددا من المجازر عام 1991، وكان العسكر مصممين على القضاء على السكان المحليين من دعاة الانفصال. توصلت أخيرا أندونيسيا إلى اتفاق مع البرتغال لإنشاء بعثة دولية لإجراء الاستفتاء على مصير الجزر، بناء على قرار مجلس الأمن 1246 (1999). جاءت نتيجة الاستفتاء في 30 أغسطس 1999 لصالح الانفصال. اندلعت أعمال العنف فقام مجلس الأمن بتشكيل قوة حماية حسب القرار 1264 (1999) بقيادة أستراليا، كما قام بتشكيل إدارة دولية مؤقتة تدير شؤون الجزيرة حسب القرار 1272 (1999) الذي اعتمد تحت الفصل السابع. بقيت الإدارة المؤقتة لغاية إعلان تيمور الشرقية دولة مستقلة في 20 مايو 2002. وبالتالي استطاعت المنظمة الدولية من خلال قرارات مجلس الأمن تأمين الحماية للشعب في تيمور الشرقية لغاية الاستقلال. وتعتبر تجربة تيمور الشرقية من أنجح نماذج الحماية في العصر الحديث.
البوسنة والهرسك
1992- 1995 (مناطق حماية)
أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن صربيا بتاريخ 6 ابريل 1992. وسبقها إلى إعلان الاستقلال سلوفينيا وكرواتيا. لكن التنوع العرقي والديني في البوسنة أدى إلى قيام الصرب برفض الاستقلال وشن هجومات كاسحة على المسلمين والكرواتيين. صحيح أن الجيش النظامي انسحب من البلاد في شهر مايو، لكن الميليشيات الصربية الموجودة في البوسنة تابعت شن الهجمات الدموية على المسلمين، وهدد رضوان كارافيتش علنا المسلمين بالإبادة الجماعية. تقطعت السبل لبعض المدن ذات الأغلبية المسلمة في شرق البوسنة، حيث غالبية السكان من الصربيين مثل تولزا وزيبا. قام مجلس الأمن بإنشاء قوة الأمم المتحدة للحماية (أونبروفور) بناء على قرارات تحت الفصل السابع، معتبرا أن هناك مناطق وجيوبا داخل البوسنة "مناطق آمنة" ولا يجوز التعرض للمدنيين فيها ".
تجربة المناطق الآمنة أثبتت عدم نجاعتها حيث قامت الميليشيات الصربية باختراق بعضها، واحتلال سربرنيتسا وزيبا في يوليو 1993 وارتكاب مجازر فظيعة واغتصاب ما يزيد عن 50000 مسلمة، وإقامة مقابر جماعية للتغطية على تلك الجرائم، التي ما زالت بعض تفاصيلها قيد التحقيق، رغم اعتقال أو قتل أو موت معظم من ارتكبوا تلك المجازر. بعد ذلك قررت قوات الناتو أن تتدخل خارج إطار مجلس الأمن واستطاعت الميليشيات البوسنية أن تستعيد السيطرة على المناطق الآمنة في شهر يوليو 1995.
الخليل 1994، 1996، 1997- الحاضر
ارتكب الإرهابي اليهودي باروخ غولدستاين، مجزرة داخل الحرم الإبراهيمي في الساعات الأولى لصباح 25 فبراير 1994 في شهر رمضان، مخلفا 29 ضحية وأكثر من 100 جريح. اعتمد مجلس الأمن القرار 904 (1994) الذي ينص على "اعتماد إجراءات لضمان سلامة وحماية المدنيين الفلسطينيين في كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن بين تلك الإجراءات، حضور دولي أو أجنبي مؤقت" استنادا إلى اتفاقية انسحاب القوات الإسرائيلية من منطقة غزة وأريحا والملحقة بإعلان المبادئ حول اتفاقية الحكم الذاتي المؤقت، الموقع بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بتاريخ 13 سبتمبر 1993.
ترك أمر نشر الوجود الدولي الذي اقتصر على الخليل فقط للطرفين المعنيين م.ت.ف وإسرائيل، حيث تم التوصل إلى اتفاقية عام 1994 وتمت مراجعتها عام 1996، ثم عاد الطرفان وتوصلا إلى اتفاقية نهائية بتاريخ 21 يناير 1997 موقعة من صائب عريقات عن م.ت.ف. وإيتان بنتسور عن إسرائيل.
وتتكون الوحدة من 180 عنصرا لا يحملون أي سلاح ويسيرون في سيارت تحمل اسم الوحدة ويلبس أفرادها زيا مميزا، وتنحصر مهماتها في "المساعدة في المراقبة وتقديم التقارير حول الجهود للإبقاء على حياة طبيعية في الخليل، وخلق شعور بالأمان بين الفلسطينيين في مدينة الخليل". وعناصر الوحدة ينتمون للدنمارك والنرويج والسويد وإيطاليا وسويسرا وتركيا. وتعين النرويج رئيس الوحدة. هناك "لجنة الخليل المشتركة" والمكونة من المسؤول العسكري الإسرائيلي لمنطقة الخليل ومسؤول الشرطة الفلسطينية ومسؤولي لجنة الارتباط المدني، بالإضافة إلى رئيس الوحدة. وتقوم الوحدة بإعداد تقرير يومي حول الأوضاع في الخليل، استنادا إلى المعايير الدولية في مسائل حقوق الإنسان، وتقدم "للجنة الخليل المشتركة" المخولة بالتعامل مع أي مسألة. وانتهى الأمر.
هل الحماية الآن ممكنة؟
قدمنا ثلاثة نماذج للحماية: نموذج ناجح ويستند إلى دعم سياسي واسع من مجلس الأمن وتشكيل قوة رادعة قادرة على التدخل والحسم عسكريا، إن اقتضى الأمر، والنتيجة أن الشعب في تيمور الشرقية تمت حمايته إلى أن وصل إلى بر الأمان، وهو الاستقلال. النموذج الثاني وهو نموذج متعثر يستند إلى دعم سياسي، لكن بدون تزويد البعثة بالإمكانيات اللوجستية المطلوبة، كما قال الأمين العام السابق بطرس غالي في مجلس الأمن، عندما طالب إعداد قوة عسكرية حقيقية لتنفيذ قرار المناطق الآمنة، والنتيجة مجازر كبرى إلى أن تدخل الناتو 1994 فغير موازين القوى. والنموذج الثالث نموذج تافه تم تفريغه من محتواه فورا، عندما خسر الدعم السياسي في مجلس الأمن والدعم اللوجستي، وترك الأمر للقاتل والضحية أن يسويا الأمور بينهما، فانتهى الأمر إلى نموذج عادل إمام "شاهد ما شافش حاجة". حتى أن المجموعة لا تقدم تقارير للأمم المتحدة. كما أن الأمم المتحدة لم تتابع القرار ولم تكن جادة في تنفيذه. وبالنسبة للسلطة الفلسطينية قبلت أن تفرغ القرار من أي محتوى أو قيمة أو أهمية وكأن المجموعة عبارة عن وحدة كشافة.
إذن لا نتوقع على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد أن يقر مجلس الأمن الآن أي تفويض بإنشاء قوة حماية دولية لحماية الشعب الفلسطيني، لأن الولايات المتحدة ستمنع ذلك بدون أدنى شك حتى لو وافق 14 عضوا على الإجراء.
القيادة تعرف هذا وكل هذه المحاولات هي من النوع "في الحركة بركة"، وهم يعرفون أن الدور الذي أنيط لهذه القيادة، كما تحدثنا في مقال سابق حسب اتفاقيات أوسلو هو تأمين الحماية والأمن لقوات الاحتلال، ووجودها جزء من منظومة الأمن الإسرائيلي، وإذا تخلت عن هذا الدور فستقوم إسرائيل بإسقاطها فورا والخيار أمامها أن تحتمي بشعبها وتتبنى مطالبه وتنتصر له وتنخرط في صفوف النضال الحقيقي على الأرض لا في الخطب والمنابر والمؤتمرات.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي
د. عبد الحميد صيام