لم ننتصر في تل أبيب ..!

بقلم: أكرم عطا الله

لم نستفد من تجارب الآخرين ولا من تجربتنا حتى ....ولم نفكر بإعادة النظر في أي من مسارات حركة الكفاح الفلسطيني بالرغم من تباعد الاستقلال أكثر .. لم نتوقف أمام أي شيء .. لم نشكل لجان تحقيق ولا لجان فحص المسار كأننا على الطريق الطويل لم نخطئ أبداً وكل ما فعلناه كان في غاية الدقة .. لا مراجعات لتاريخنا ولا تصويب لأخطاء ارتكبناها .. ليس لدينا باحثون يعيدون نبش وقراءة تاريخنا بشكل نقدي .. حتى نحن الكتاب تواطأنا مع الفصائل على أخطائها السياسية والكفاحية واقتصرت انتقاداتنا على أدائها الإداري فقط لأن في انتقاد السياسة وأداء الكفاح ما يخيف من اتهامات هي الأسهل والاكثر تداولا في الحالة الفلسطينية وخاصة أن الفصائل تخوض الصراع مع إسرائيل وتفسر أي انتقاد بمنطق إضعاف الجبهة الداخلية.

ماذا نفعل؟ هكذا ترى الفصائل في أية محاولة تصويب أو تعديل، تضع الجميع على لائحة الاتهام، لهذا صمت الجميع من كتاب وباحثين ومحللين تهربوا من تعديل المسار وكل شيء سار بقوة الدفع الذاتي أو بنظام رد الفعل على السياسة الإسرائيلية دون فعل مبادر أو مبادرات بعضها خاطئ لم نجرؤ على قول ذلك ..آن الأوان لسياسة نقدية أكثر جرأة أن نعرف ماذا كان علينا أن نفعل .. أن ندرك أننا لم نفعل كل شيء وأننا ارتكبنا أخطاء في منتصف الطريق وغطيناها بالشعارات والوهم لم نستثمر لحظات الانتصار وحولنا الهزيمة إلى نصر، وفي كثير من المحطات الصادمة كانت بلاغة اللغة تخفي كثير من قصورنا.

لماذا خلت تل أبيب من المتظاهرين الذين يطالبون بإنهاء الاحتلال ووضع حد للصراع الدائر؟ هذا السؤال الذي لا بد وأن يحضر في ذروة هذه الهبة وقبلها طبعا وفي ظل الانحسار الهادئ للمعارضة الإسرائيلية ولليسار الإسرائيلي وللمطالبين بالانسحاب وحد الدولتين .. لقد قالت تجربة التاريخ أن عاصمة المحتل التي اهتزت شكلت عنصر الضغط الأبرز لإنهاء الاحتلال .. فماذا فعلنا نحن كي نجعل تل أبيب تغرق بالمتظاهرين؟

انتصرت الجزائر في باريس بعد تظاهرات السابع عشر من أكتوبر على نهر السين قبل أن تنتصر في مدن الجزائر .. انتصرت فيتنام في واشنطن قبل أن تنتصر في هانوي عندما خرج 400 ألف أميركي يطالبون بالانسحاب بعد كشف الصحافة الأميركية لفظائع المجازر تحديدا مجزرة قرية " لاي"، وانتصر حزب الله في تل أبيب قبل أن ينتصر في جنوب لبنان عندما تحركت حركة " الأمهات الأربع " التي طالبت بسحب أبنائهن من جحيم الجنوب اللبناني فأعطى باراك وعدا بالانسحاب خلال عام وقد نفذ.

في الدول ذات الطابع الديمقراطي فإن أهم محركات السياسة هو الرأي العام أي الناخب الذي يمارس النظام السياسي .. تصنف إسرائيل على أنها دولة " اثنوقراطية "  أي ديمقراطية الأثنية الواحدة والدين الواحد أي ديمقراطية لليهود فقط، وقد أثبتت حركة الأمهات أن تأثيرها كان أكبر من عددها أرغمت القيادة الإسرائيلية على الهروب من منطقة اعتبرها بن غوريون ذات يوم أنها جزء من الأمن القومي الإسرائيلي بفضل الأنهار المائية الوزاني والحاصاباني التي تستهلك إسرائيل سنويا منهما بالإضافة إلى بحيرة طبريا 500 مليون متر مكعب .. فماذا عملنا نحن كي نستخدم المواطن الإسرائيلي ونحوله إلى عنصر ضاغط على حكومته؟

هذا السؤال ربما يبحث عن إجابات تعكس أننا أهملنا الجبهة الداخلية الإسرائيلية ولم نعتبرها يوما من ممكنات القوة الفلسطينية، بل الأسوأ أننا لم نعمل أي شيء من أجل تحويلها إلى ورقة من الأوراق المؤثرة في حين أنها الأكثر تأثيرا .. ماذا فعلنا كي نجعل الإسرائيلي يعتصم في ساحات تل أبيب كما صبرا وشاتيلا مطالبا حكومته بالانسحاب؟ لا شيء، بل ظللنا نراقب من بعيد حالة الخوف والقلق سعداء بما يغذي عاطفة الانتقام لدينا دون تحويل ذلك إلى برنامج سياسي له أدواته ومكلفوه بمهام محددة.

بالعكس نحن من ساهم بمنع أي عمل في الداخل الإسرائيلي بل قطعنا كل خيوط التواصل معه وأجهضنا أية محاولة للتأثير عليه، وهاجمنا من حاول أن يفعل ذلك باسم الخوف من التطبيع، ولم نتعامل مع المسألة باعتبارها عملية منظمة لاختراق المجتمع الإسرائيلي والتأثير عليه، فقد تغلب الشعار على الفعل، والمثال الأبرز على ذلك أننا عندما نرى إسرائيليا على فضائية عربية يتملكنا الخوف باعتبار أن ذلك اختراق للمجتمعات العربية ولم نتعامل أو بل نمنع أي فلسطيني من الظهور على وسائل إعلام إسرائيلية، فاذا كان الأمر اختراقا فلماذا نخاف ممارسته ؟

ذات مرة ولعقود طويلة قمنا بمقاطعة الفلسطينيين في إسرائيل لمجرد أنهم يحملون الهوية الإسرائيلية .. كان يجب أن يتخلى محمود درويش عن هويته حتى يتم احتضانه فلسطينيا، أما سميح القاسم فقد كانت تتم مقاطعته حتى السبعينات لأنه "إسرائيلي"، والآن نكتشف أن فلسطينيي 48 الذين بقوا هناك أكثرنا تجذرا ووطنية وأنهم جزء أصيل من الكفاح الفلسطيني، بل إن المستقبل يقول إنهم الجزء الأكثر أهمية لأنهم يعيشون في أحشاء إسرائيل، يفهمونها ويفهمون كيف تفكر وكيف يمكن النضال ضدها، والآن نكتشف أن إسرائيل تتمنى أن يتنازلوا عن الهوية الزرقاء .. ألم يكن هذا حلمنا منذ عقود؟

ذات مرة أيضا كان يعامل أي فلسطيني من الضفة الغربية وغزة معاملة النبذ والاحتقار فيما لو تزوج من مناطق 48 سواء يهودية أو فلسطينية، وقد تشكل الرأي العام الفلسطيني دون توجيه نحو رفض تلك المسألة .. كيف لفلسطيني أن يحمل الهوية الإسرائيلية؟ كانت تلك جريمة تقترب من الخيانة العظمى .. ولم نصحُ على المسألة إلا متأخرا بعد أن صرخ شارون عام 2001 من على منصة الكنيست قائلا "إن عمليات لم الشمل والزواج قد سمحت لـ 100 ألف من فلسطينيي المناطق أن يحصلوا على هوية "ومن حينها تجندت الإجراءات والقوانين الإسرائيلية لمنع ذلك ومنها "من أراد الزواج من مناطق 48 يأخذ شريكه أو شريكته إلى غزة والضفة .. حينها فقط أدركنا أن سياستنا وساستنا ورأينا العام لم يستعمل عقله .. ليتنا أرسلنا نصف مليون إلى هناك ليحملوا الهوية الزرقاء.

وأبعد من ذلك لم نسأل عن عمليات التفجير في الداخل وما كان تأثيرها بعيدا عن نزعات الانتقام العاطفية وما مدى استثمارها السياسي، هل ساعدت الفلسطينيين في إعادة تشكيل الوعي الإسرائيلي ولأي اتجاه؟ لم نسأل فالأمور لدينا عادة تسير بلا وقفات، والآن سؤال الصواريخ وعلاقته بالاستثمار السياسي وقبول حل الدولتين، لم نسأل هل دفعت الوعي الإسرائيلي نحو الضغط على حكوماته أم زادته تصلبا .. لا أقدم إجابات لأنني أخاف مثل الجميع من تهمة انتقاد المسار السياسي والعسكري، لكني أقدم أسئلة اعتقد أنها كبيرة للعقل الفلسطيني القائد .. إنها مدعاة لمعرفة نقاط القوة والضعف .. مدعاة للمراجعة والاستفادة لإعادة صياغة برنامج يحقق أكبر إنجاز وأقل الخسائر وبأقصر الطرق .. برنامج العقل وليس العاطفة والبلاغة ..!.

أكرم عطا الله

[email protected]