في منتصف خمسينات القرن الماضي، إنطلقت جبهة التحرير الوطني الجزائري في ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م، ثورتها المجيدة ضد الإستعمار الفرنسي الكلونيالي الإستيطاني الثقافي، والذي كان يسعى للإحتفاظ بالجزائر وإعتبارها أراضٍ فرنسية، فزلزلت أركانه، وترددت أصداء أعمال المقاومة الجزائرية البطولية في أرجاء العالم، كما ترددت أصداء الإجرام الإستعماري الفرنسي والقمع الجماعي للشعب الجزائري أيضاً في أرجاء العالم، وفضحته أحكامه القرقوشية على المناضلات والمناضلين الجزائريين من سجن وتعذيب وإعدامات مخالفة لمبادئ الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، ولحق الشعب الجزائري في المقاومة والثورة على المستعمر، وحقه في إنتزاع الحرية والإستقلال وتقرير المصير.
كانت الأنباء تتناقل بطولات الثوار الجزائريين، التي باتت تطوق عنق الإستعمار، وتؤجج المشاعر النبيلة المساندة لحق الشعب الجزائري في الحرية والإستقلال في البلاد العربية وفي مختلف دول العالم، وتزداد المواقف المؤيدة للجزائر، مع إزدياد إجراءات البطش والقمع والعنف الذي يمارسه المستعمر الفرنسي، وباتت أسماء ثوار الجزائر وقياداتهم، من بوضياف، إلى عباس فرحات، إلى حمروش، إلى بن بلة، وهواري بومدين، إلى المناضلات جميلة بوحيريد وجميلة عكار وجميلة بو عزة مألوفة لنا وللآخرين وإن كنا أطفالاً في تلك المرحلة، وكانت تلهب مشاعرنا، ونتناقل القصص والروايات عن البطش الإستعماري من جهة، وعن البطولة والصمود الأسطوري للشعب الجزائري ومناضليه ومناضلاته من جهة أخرى، وكان لإسم الفتاة المناضلة جميلة بوحيريد وقع خاص في نفوسنا، كما في الرأي العام العربي والدولي، لما تعرضت إليه هذه المناضلة الشابة من تعذيب وأحكام جائرة أصدرها في حقها القضاء العسكري الإستعماري لكسر إرادة المقاومة، وكان لصمود هذه السيدة المناضلة والعظيمة جميلة بوحيريد في وجه الجلاد والقضاء الفرنسي الإستعماري صدى واسع الإنتشار، وضع المستعمر في مأزق أخلاقي وقانوني وسياسي، كان لابد أن يدفع المستعمر ثمنه، وهو حرية هذه المناضلة الباسلة وأخواتها وإخوانها المناضلين وشعبها العظيم، الذي قدم تضحيات جسام وشهداء بالآلاف يومياً حتى فاق عدد شهدائه أكثر من مليون شهيد، ودمار كثير من المدن والقرى الجزائرية، وتهجير الكثيرين من سكانها إلى دول الجوار في تونس والمغرب، وقد شكلوا هناك قواعد إضافية لرفدِ الثورة، وكانتْ جميلة بوحيريد واحدة من الآلاف المؤلفة من المناضلين والمناضلات، الذين سقطوا أسرى في قبضة الجلاد، حيث إتهمت بزرع الكثير من المتفجرات والعبوات الناسفة في العاصمة الجزائر، مما أودى بحياة الكثير من المستعمرين الفرنسيين، ودب الرعب في قلوبهم، وبعد عمليات تعذيب مختلفة، يصعب تصورها قُدمت هذه المناضلة للمحاكمة في يوليو من عام 1957م وصدر حكم جائر عليها بالإعدام، لكن قضيتها قد أخذت بعداً عربياً ودولياً واسعاً لم يكن يتوقعه الجلاد، لعب فيه محاميها "جاك فيرجس" دوراً رئيسياً، ما أدى إلى حدوث ضغط كبير من الرأي العام العربي والعالمي، تأييداً لهذه المناضلة العظيمة وشعبها، أجبر الحكومة الفرنسية على تأجيل تنفيذ حكم الإعدام بحقها، وليطلق سراحها وسراح الآلاف من الأسرى الجزائريين بعد أن خضعت فرنسا لرغبة الشعب الجزائري في نيل الحرية والإستقلال، حين تم توقيع ((إتفاق إيفان)) في مايو 1962م بين حكومة فرنسا وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وتم إعلان إستقلال الجزائر، وما قصة المناضلة الكبيرة جميلة بوحيريد إلا واحدة من آلاف القصص للمناضلين والمناضلات الجزائريات اللواتي والذين رسموا بتضحياتهم ونضالاتهم المستمرة طريق الحرية والإستقلال للجزائر، فالتحية كل التحية للمناضلة جميلة بوحيريد ولكل المناضلين والمناضلات الجزائريات، وهذه المناضلة المتميزة بالصمت والصمود، وبالصبر حققت أمنيتها في إنتزاع حريتها وحرية شعبها وأن تحيا بسلام في ربوع وطنها الحر المستقل التي نذرت حياتها من أجل حريته وإستقلاله، لن تنسى الجزائر المناضلة جميلة بوحيريد وغيرها من المناضلات والمناضلين صناع الحرية والإستقلال، كما لن ينساها العرب والعالم أجمع، ونحن أبناء فلسطين الذين نكابد ما كابده شعب الجزائر من الإستعمار الكولنيالي والإستيطاني والثقافي، خير من يقدر معاناة شعب الجزائر وتضحياته، ونقدر رموزه المناضلة وفي مقدمتهم هذه المناضلة التي لم يفوتها أن تؤكد لرفيقاتها المناضلات الفلسطينيات في سجون العدو الصهيوني في رسالة وجهتها لهن في 15/12/2015م قالت فيها: ((إن مصيركن هو مصير بنات الجزائر، اللواتي صنعن مع رجالها حرية الجزائر ... إنكن تضربن المثل الأرقى في صمود المرأة ومشاركتها في قضيتها الوطنية، وأنتن تكفشن للعالم عن جدارتكن وجدارة شعبكن في إنتزاع حريته وإستقلاله ..)).
مؤكدة مساندتها ومساندة شعب الجزائر العظيم لفلسطين، ومجاهديها وأسراها وأسيراتها في صمودهم المستمر ضد الإستعمار الصهيوني حتى تحرير القدس وفلسطين.
نعم المناضلة جميلة بوحيريد تمثل أيقونة في ثورة الجزائر، خلد شعب الجزائر، ومعه الأمة العربية وأحرار العالم ذكرى هذه المناضلة الفذة، التي بقيت ملتزمة بمبادئها الإنسانية الثورية في وجه الظلم والعدوان والإستعمار أينما وجد، فهي مناضلة جزائرية، عربية، وعالمية من طراز خاص، لها كل التحية والإجلال والإكبار، على هذا الثبات والدعم الذي أكدته لأسيرات وأسرى فلسطين، ولشعب فلسطين وهي قد أوفت الخامسة والثمانون من العمر ولكنها، تؤكد على حيويتها الوطنية والثورية حين قالت: (أتمنى أن أكون بين أسيرات فلسطين لدعم صمودهن).
إن شعب فلسطين لن ينسى هذه المواقف الثابتة لهذه المناضلة الفذة ولشعبها الشقيق الذي كان دائماً إلى جانب الشعب الفلسطيني في كفاحه المتواصل والمستمر من أجل الحرية والإستقلال.
بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس